التعامل مع الناس لم يعد أمرًا بسيطًا كما كان، صار فنًّا يحتاج إلى دليل تشغيل، وصبرٍ بحجم البحر، وهدوءٍ لا يملكه إلا الحكماء، فكل علاقة اليوم باتت امتحانًا في التوازن بين ما تشعر به، وما يُفترض أن تُظهره، وبين ما تريد قوله، وما يجدر بك السكوت عنه.
تحاول أن تكون طيبًا فتُتَّهم بالضعف، تضع حدًّا للتمادي فتُوصف بالقسوة، تشرح وجهة نظرك فتُدان بأنك تُكبر الأمور، تصمت فتُلام لأنك لم تتكلم، إنها معادلة مستحيلة؛ مهما حاولت أن تُرضي الجميع، ستجد نفسك في النهاية متَّهَمًا من الجميع!
العلاقات في هذا الزمن أشبه بساحة اختبار للأعصاب، لا يكفي فيها حسن النية، بل تحتاج إلى مهارة في تجنّب الألغام الكلامية، وذكاء في قراءة النوايا قبل أن تنفجر المواقف، صار التواصل مرهقًا، والودّ عملة نادرة، والكلمة الطيبة تُفسَّر أحيانًا على أنها مجاملة خادعة، بينما الصراحة تُعتبر وقاحة.
كأننا نعيش في زمنٍ يُقاس فيه الاهتمام بعدد الرسائل، والمحبّة بسرعة الردّ، والوفاء بآخر ظهور على الإنترنت! صارت العلاقات كشبكات الواي فاي، تَضعف الإشارة حين نبتعد قليلًا، وتنقطع فجأة دون سابق إنذار.
ولأن الناس تغيّرت، بات عليك أن تختار بين راحتك ورضا الآخرين، بين أن تكون صادقًا مع نفسك، أو مقبولًا عند الجميع، لا تُرهق قلبك في محاولات التبرير، فكل من يريد أن يفهمك سيفعل دون شرح، ومن لا يريد لن تكفيه مجلدات.
ربما آن الأوان أن نعيد ترتيب علاقتنا بالعالم، أن نتعامل ببساطة دون أن نُرهق أرواحنا، أن نُحبّ بصدق دون أن نطلب المقابل، وأن نُسامح دون أن ننسى أن نحافظ على كرامتنا، فالعلاقات ليست معاركًا للفوز، بل مساحات من الفهم المشترك، إن ضاقت اختنقنا، وإن اتسعت تنفّسنا.
نحن في زمنٍ فقد فيه الناس “كتالوج القلوب”، فتداخلت المشاعر، واختلطت النوايا، وبات الحذر لغة التواصل الأولى، ومع ذلك، لا يزال هناك أمل، فمهما تعقّدت العلاقات، يبقى التعامل الإنساني الحقيقي هو المعجزة التي تذكّرنا بأننا ما زلنا بشرًا.

