تحوّلت العاصمة المغربية الرباط، مساء الأربعاء، إلى مسرح لاحتفالات جماهيرية وحماسية غير مسبوقة، مشفوعة بهتافات وأهازيج شعبية وزغاريد، بعد إحراز المنتخب المغربي لكرة القدم لأقل من 20 سنة لقب كأس العالم للشباب في ملعب «ناسيونال» بالعاصمة التشيلية سانتياغو، بعد الفوز على المنتخب الأرجنتيني بهدفين دون رد.
وتوافدت جموع غفيرة من المواطنين من كل المغرب على الشوارع الرئيسية للمملكة، حاملين الأعلام الوطنية ومرتدين قمصان المنتخب الوطني، وهم يُحيون موكب الحافلة المكشوفة لـ«أشبال الأطلس» المزينة بالألوان الوطنية، قبل أن يتم استقبال هؤلاء الأبطال في حفل ملكيّ ترأسه ولي العهد الأمير الحسن.
عاش المغرب أصداء صيحات نشوة الفوز والفرح ودويّ أبواق السيارات، وبلغ غناء المغاربة أسماع الدنيا، ملخصة البهجة الكاسحة التي عمّت كل المغاربة؛ احتفاء بأول لقب عالمي يحرزه المغرب في مسابقة ينظمها «الفيفا». وهذا النجاح هو ثمرة جهود ذكية انخرط فيها المغرب منذ سنوات، من خلال أكاديمية محمد السادس لكرة القدم، التي توجد ضمن مجمع كروي عالي المستوى مجهز ببنيات رياضية وتربوية من الجيل الجديد.
انبهرتُ وانبهر العالم أجمع لقوة الماكينة الشبابية المغربية وقدرتها على الفوز باللقب في نوع من الرياضة هو الأكثر شعبية في العالم والأقل تكلفة لمن يريد أن يمارسه… وقال المعلّقون، وهم يتحدثون عن إنجاز المنتخب المغربي: «إنهم قاتلوا ببسالة»… وانظر إلى استعمالهم كلمة «القتال» و«البسالة» في لعبة رياضية؛ لأنها أضحت عالمياً جزءاً لا يتجزأ من القوة الناعمة للدول؛ يتداخل فيها السياسي والرياضي والتجاري والصناعي والنفوذ المالي والإعلامي، وإلا لما تسابقت الدول لاستضافة كأس العالم، ويكفي أن نستحضر أن أكبر نسبة مشاهدة في تاريخ مونديال كرة القدم للشباب هي التي حققها النهائي بين المغرب والأرجنتين؛ إذ بلغت مليارَي و800 مليون مشاهدة عبر العالم.
ثم إن هاته الفرحة تُذكرنا بتلك التي تلت الأداء الرائع لمنتخب «أسود الأطلس»، خلال بطولة كأس العالم التي نُظمت في قطر، حيث نجح المنتخب الوطني المغربي في الوصول إلى دور نصف النهائي، للمرة الأولى في تاريخه وفي تاريخ أفريقيا والوطن العربي، عقب تفوقه على منتخب البرتغال بهدف نظيف، وقبل ذلك استطاع الوصول إلى دور ربع نهائي «المونديال» بعد الفوز على المنتخب الإسباني.
نعم، إنهم الشباب المغاربة الذين أبهروا العالم، وأبرزوا قوة الماكينة المغربية والعربية والأفريقية وقدرتها على الفوز… نعم، إنهم الشباب المغاربة الذين جعلوا رؤساء دول العالم يهاتفون ملك المغرب؛ لتهنئته على هذا الفوز، وجعلوا رؤساء الشركات الكبرى، من أمثال مالك شركة «إكس» (تويتر سابقاً)، يهنئون المغاربة… إنهم أبناء المغرب الذين أدخلوا جميع البشر في تحالف نادر للحضارات، حيث وجد الناس من كل القارات أنفسهم في عرس بهيج وتاريخي في الهواء الطلق وداخل البيوت والقرى البعيدة والساحات والعواصم والمدن الكبرى والصغرى متحدّين في كثير من الأحيان أحوال الطقس.
ونتذكر عندما قام الرئيس الأميركي السابق جو بايدن بمشاهدة مباراة المغرب وفرنسا في البيت الأبيض على شاشة التلفزة، مُشيداً بالأداء «الرائع» لمنتخب «أسود الأطلس» خلال البطولة. وقال بايدن، على «إكس»، بعد مباراة نصف النهائي: «لقد كان شرفاً عظيماً أن أشاهد المباراة إلى جانب رئيس الوزراء المغربي السيد عزيز أخنوش… بغض النظر عن الفريق الذي تُشجعه، فإن ما حققه هذا الفريق رائع». وأرفق تغريدته بصورته وهو يجلس على كرسي محاطاً بقادة آخرين وأمامهم شاشة تبث المباراة.
لقد فهم الرئيس الأميركي أن الصداقات تتكون من خلال هاته الخطوات، وأنه يجب فهم واحترام ثقافة ودين الآخر… وهذا ما لخصته صحيفة «الغارديان» البريطانية، عندما كتبت: «إن ممارسة المغاربة طقوساً دينية أثناء مباريات كأس العالم (قطر 2022)، وفخرهم بالإسلام يجب أن يُلهمنا جميعاً». وذكرت الصحيفة، في تقرير مطوَّل، أنه «قبيل ركلات الترجيح في دور الستة عشر بين المغرب وإسبانيا، تلا اللاعبون المغاربة سورة (الفاتحة). وبعد تأمينهم العبور إلى دور ربع النهائي، ركض الفريق نحو الجمهور وقام بالسجود». وأشارت إلى أن المغاربة من خلال هذه الممارسات «لم يعلنوا للعالم فخرهم بكونهم مغاربة فقط، بل فخرهم بالإسلام أيضاً، الذي ألهم احتفالات بنشوة النصر في جميع أنحاء العالم الإسلامي». وأوضحت الصحيفة أن «رؤية اللاعبين المغاربة على تلفزيون عالمي وهم يطبّقون تعاليم الله بتكريم أمهاتهم اللواتي كُنّ يرتدين الحجاب، لم تكن جميلة ومؤثرة وراقية فحسب، بل كانت مهمة ومبلورة لجوهر المنافسة الدولية».
وأنا أقول إن مثل هاته اللقاءات الرياضية الدولية تُعد فرصة للتعرف إلى الثقافات المختلفة، والاحتفال بالتنوع الحضاري لبناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك.

