توقَّفت كثيراً عند إطلاق وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان مشروع «بوابة الملك سلمان» بموقعِه الاستراتيجي بجوار المسجدِ الحرام في مكةَ المكرمة، كوجهةٍ متعددةِ الاستخدامات تستهدف تحقيقَ نقلةٍ نوعية في تطوير البنية التحتية، والارتقاء بمنظومة الخدمات المقدّمة في المنطقة المحيطة بالحرم المكي، مع تعزيز جودة التطوير العمراني، وتحقيق نموذج عالمي في التطوير والاستدامة، من خلال توفير مرافقَ سكنيةٍ وتجارية وثقافية وخدمية، كما يضيف المشروع طاقة استيعابية تتَّسع لما يقارب 900 ألف مصلٍ؛ وتساءلت هنا: هل نحن أمام مشروع عملاق آخر يضاف لمنظومة المشروعات الكبرى التي يجري تنفيذها في أكثر من منطقة في المملكة العربية السعودية، أم أنّنا نواجه مشروعاً نوعياً ومختلفاً، في مكانته وحجمه ومساحته ومكوناته؛ بل وحتى مستهدفاته؟
جاءَ في الإعلان عديدٌ من المؤشرات والأرقام؛ إلا أنَّنا ما زلنا في انتظار إعلان البيانات التفصيلية عن المشروع، الذي تعمل على تطويره شركة «رؤى الحرم المكي» التابعة لصندوق الاستثمارات العامة، كما أنَّه استرعى انتباهي أنَّ موقع المشروع قد يضم عدداً من الأحياء القديمة في مكة المكرمة، بدءاً من شعب عامر في الجهة الشرقية للمسجد الحرام، وصولاً إلى جرول في الجهة الشمالية الغربية، مروراً بمواقع أحياء السليمانية والنقا والفلق أو أجزاء منها، التي تحوي عديداً من مواقع التراث الإسلامي وغيرها من المواقع التاريخية. كما يحوي جبل قعيقعان أحد أخشبي مكة، وأجزاءه التي اتخذت أسماء مستقلة كجبل «المدافع» نسبة إلى مدفع رمضان الذي كان يُطلق طلقاته من على ذلك الجبل، وجبل «هندي» الذي احتضنت قلعته الشهيرة في فترات من تاريخها مدرسة تحضير البعثات والمعهد العلمي السعودي وغيرها من مؤسسات التعليم؛ فكانت مجمعاً تعليمياً شاهداً على بدايات التعليم النظامي في البلاد، كما كانت أول مقرات الإذاعة السعودية بمكة المكرمة. هذه الأمثلة وغيرها كثير من المواقع الداخلة في نطاق المشروع يمكن أن تفسر ما ورد في الإعلان: «أن من بين أهداف المشروع المحافظة على الإرث التاريخي والثقافي لمكة المكرمة، من خلال تطوير وإعادة تأهيل مناطق ثقافية وتراثية تصل مساحتها إلى تسعة عشر ألف متر مربع».
وهذا كله سيسهم في رفع مستوى جودة الخدمات، ويعزز الهوية الثقافية ويثري تجارب ضيوف الرحمن بما يحقق مستهدفات رؤية المملكة العربية السعودية 2030.
ومما يجدر ذكره أنَّ هذا المشروع ليس الأول لصندوق الاستثمارات العامة في مكة المكرمة، حيث يساهم الصندوق في تطوير عدد من المشروعات، سواء من خلال شركاته أو من خلال الشركات التي يمتلك فيها حصصاً، كما أنه بدأ في أعمال تطوير مشروع «رؤى المدينة» في المدينة المنورة، الذي أطلقه سمو ولي العهد عام 2022.
تاريخياً، جعلت المملكة العربية السعودية خدمة الحرمين الشريفين، ورعاية ضيوف الرحمن، على رأس أولوياتها واهتمامات ملوكها منذ عهد الملك عبد العزيز وحتى اليوم.
كان المسجد الحرام لا تتجاوز طاقته القصوى 50 ألف مصلٍ، فجاءت التوسعات السعودية ليس لرفع الطاقة الاستيعابية للحرم وتحسين الأحوال لتأدية شعائر الطواف والسعي والصلاة بيسر وسلامة فحسب؛ بل ووضعت الحلول الجذرية لمعالجة الأخطار التي كانت تهدد سلامة المسجد وقاصديه كالحرائق والسيول.
كما أتت من خلال توسعاتها الثلاث – وعلى مدى ما يزيد على سبعين عاماً – بعمارتها التي لم يشهد الحرم المكي لها مثيلاً، سواء من حيث المساحة، أو مواد البناء المستخدمة، أو الجوانب المعمارية، وفخامة البناء، والإنجاز المحكم والتطوير الشامل للنواحي العمرانية والهندسية والتقنية والصحية والأمنية والنقل والاستدامة، إضافة إلى أعمال البنية التحتية وغيرها من الخدمات مما لا يُرى ولكن يُلمس أثرها، علاوة على إنشاء الأبراج والمجمعات السكنية والتجارية والفنادق والأسواق والمطاعم.
لقد كان الحَرمان الشريفان على رأس اهتمامات الملك عبد العزيز وأولوياته، وإحدى أهم المسؤوليات التي تشرّف بها أبناؤه الملوك من بعده وحققت الدولة السعودية بتوسعاتها إنجازاً معمارياً فريداً في تاريخ عمارة المسجد الحرام بشكل خاص، وتاريخ العمارة والفن المعماري على وجه العموم.
واليوم يأتي الإعلان عن بوابة الملك سلمان ليؤكد هذا الاهتمام، ويعزز المنجزات العملاقة والخدمات المميزة التي قدمتها وما زالت تقدمها المملكة العربية السعودية لخدمة ضيوف الرحمن، وأرى فيه دلالات عدة لا من حيث المسمى أو التصاميم أو المكونات، أو حتى الطاقة الاستيعابية التي تعادل ما يصل إلى 50 في المائة تقريباً من الطاقة الاستيعابية الحالية للمسجد الحرام؛ مما يجعلني أعد هذا المشروع بمثابة التوسعة السعودية الرابعة للمسجد الحرام، التي قد تمثل الأنموذج القادم للتوسعات المختلفة في نموذجها ووظيفتها، مما قد يجيب عن التساؤل الكبير: كيف يمكن استيعاب الأعداد المتزايدة من قاصدي الحرمين الشريفين؟
وهو ما يعكس رؤية مختلفة لتوسعات الحرمين الشريفين وخدمة وراحة ضيوف الرحمن، خصوصاً مع اتسام عهد الملك سلمان بالتحولات الكبرى والحلول الشاملة والمعالجات المختلفة لكثير من القضايا والملفات.
وأياً يكن فستبقى هذه المشروعات وغيرها مفخرةً من مفاخر المملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وشاهداً على ما بُذل ويبذل من عطاء لا محدود للحرمين الشريفين، وما قُدم ويقدم من رعاية وعناية لا ممنونة لقاصديهما.

