إذا كنت أحد مواطني بلدان «التغيير العربي» التي ضربتها الانتفاضات في العقد الماضي، فأطاحت زعماءها وبدّلت أوضاعها تبديلاً جذرياً، فقد تعرّضتَ، على الأرجح، لبعض المقاطع المُصوَّرة على وسائل «التواصل الاجتماعي»، التي تبثُّ مشاهد تُظهر «مناقب» هؤلاء الزعماء المخلوعين، وتعكس حنيناً إلى أيامهم.
سيقول البعض إن تلك المشاهد المتكررة، التي تنتقل بسلاسة وكثافة بين المنصات، ليست سوى شكل من أشكال الحنين الجمعي للأيام الخوالي، أو اعتراض على أوضاع سيئة وأزمات صعبة تعيشها تلك البلدان، لكنَّ تقصِّي هذه المواد بعناية، وفحص العلاقات الشبكية بين مَن يصنعها ويُروِّج لها، يكشفان بوضوح عن أنها تجسِّد نوعاً من «البروباغندا الرقمية»، التي تستهدف إعادة إنتاج صور هؤلاء الزعماء، ورد الاعتبار لهم، ولما كانوا يمثلونه.
فحين اشتعلت انتفاضات ما سُمِّي «الربيع العربي»، مطلع العقد الماضي، كان من الثابت لدى أغلبية قطاعات الجمهور أن الزعماء الذين أُطيحوا، يُجسِّدون رموز السلطة المطلقة والطغيان والفساد، إلا أن ما نشهده اليوم على منصات «التواصل الاجتماعي» يوحي بوجود مراجعات مقصودة لشخوصهم ولسوية أدائهم.
ففي مقاطع الفيديو القديمة، ومقتطفات الخطاب، والتعليقات العفوية، يعيد بعض الناس إنتاج تراث هؤلاء الزعماء بصورة أكثر إشراقاً، أو يقارنون بين ما كانوا يعيشون فيه آنذاك وبين الأزمات الراهنة، بينما يدعو البعض صراحة إلى إعادة قراءة تاريخهم، وتأطير صورهم الذهنية من جديد.
والشاهد، أنه لا يمكن فهم هذا التحول في الرؤى المعاصرة بمعزل عن دور التحول الرقمي، لأن «السوشيال ميديا» استفادت من تراجع قدرة الدول والحكومات على إنفاذ سيادتها الكاملة على المجال الاتصالي، وبدت تلك السيادة مُزعزَعةً ومنقوصة، بعدما انتقل زمام المبادرة جزئياً إلى الجمهور، أو شركات العلاقات العامة والدعاية، التي قد تنفِّذ أجندات معينة تهدف إلى خلق تأثير مُحدد.
توفّر هذه المقاطع، المنتشرة عبر الأقنية الجديدة، وسيلةً فعالةً لإعادة تركيب الذاكرة الجماعية، من خلال عمليات إعادة النشر والتداول والتعليق، واستخدام المؤثرات الموحية، والحذف الانتقائي، ومُمكنات الذكاء الاصطناعي، ولذلك، فستشاهد الفيديوهات القديمة للقادة السابقين على المنصات باطراد، وهي تُظهرهم في لحظات مُفعمة بالشعور الوطني، أو الاعتداد، أو المظهر القوي، إلى جانب تعليقات يقول فيها بعض المستخدمين إن «الاستبداد كان أكثر أماناً من الفوضى الحالية»، أو إن «الاستقرار والأسعار في عهدهم كانا أفضل مما نعيشه اليوم». يعكس هذا الخطاب جزءاً من الواقع السياسي والاجتماعي، خصوصاً عند المعاناة من تدهور البُنى الاقتصادية، وهشاشة المؤسسات، والفساد الجديد، أو سُلطة الميليشيات، والتدخلات الخارجية.
لا يجب النظر إلى هذه الأنشطة بوصفها ارتجالاً كاملاً من الجمهور؛ إذ تُشير دراسات أكاديمية عن «الاستبداد الرقمي» إلى أن بعض الكيانات والأجهزة تسعى إلى استخدام أدوات الدعاية الرقمية لإعادة تشكيل الخطاب العام، عبر نشر الأجندات الدعائية، التي تظهر على أنها تعبير عن رأي شعبي. ورغم أن ذلك لا يُلغي وجود مراجعات جماهيرية حقيقية، ناجمة عن الإحباط الواقعي، فإن امتزاج العاملين – الشعبي والمُنظّم – يجعل الصيغة النهائية مُعقَّدة، ويُعمّق آثارها.
أما من حيث الفاعلية، فلا يمكن القول إن هذه الجهود نجحت بشكل مُطلق. فبينما تحقق بعض الحملات الرقمية رواجاً في تجميع الإعجابات والتعليقات، فإن تأثيرها الحقيقي في تغيير المسار السياسي، أو تبديل مواقع السلطة، يظل محدوداً حتى الآن.
وبينما تبدو مراجعات الصور الذهنية للزعماء، الذين أُطيحوا في «عقد الانتفاضات»؛ نتيجة التفاعل المُركّب بين الحنين الشعبي و«البروباغندا الرقمية»، عملاً عفوياً لدى بعض أفراد الجمهور، فإن الدراسات العلمية تثبت أنها مسألة غاية في التعقيد؛ إذ تتداخل فيها قوى متعددة: الجمهور العابر، والحركات الدعائية الرقمية، والخبراء الذين يعيدون صياغة التاريخ، عبر الفيديو والمونتاج والتعليق. وما تحقَّق حتى الآن ليس استرجاعاً كاملاً للشرعية أو المكانة السياسية، بل استعادة حضور في العقل الجمعي. أما مستقبل هذه الجهود «السوشيالية»، فمرهون بمدى قدرة الجمهور على التمييز بين العفوي والمُدبَّر، وبقدرة المنصات الرقمية على أن تكون ساحةً للحوار الحر المُنفتح، بعيداً عن مطاوعة النفوذ الرقمي والحملات الدعائية.
ولا يكمن التفسير الأعمق لهذه الظاهرة في فاعلية الحملات الإلكترونية فقط، بل في الإخفاق السياسي والاقتصادي والأمني، الذي عانت منه بعض الدول في مرحلة ما بعد «الثورات». فالفشل في بناء أنموذج أفضل، أو على الأقل مقبول مقارنة بالأنموذج السابق، هو الذي يخلق التربة الخصبة لهذه المراجعات. ولو أن المراحل الانتقالية أفرزت دولاً أكثر ديمقراطية واستقراراً وازدهاراً، لما وجدت دعاوى تلميع الماضي، أو الحنين إليه، أي صدى يذكر.

