على الرغم من الاستقرار الذي شهدته أوروبا، لسنوات طويلة من الزمن، خاصة بعد حقبة الحروب العالمية، والتوجه الصريح نحو التنمية والبناء، إلا أن ثمة معضلات كبيرة أعاقتها عن ممارسة دور بارز في المجتمع الدولي، تجلت في العديد من المسارات، أولها التبعية المطلقة للولايات المتحدة، منذ الأربعينات في القرن الماضي، حيث انصهر الدور المفترض أن تقوم به القوى القارية الكبرى، داخل بوتقة البيت الأبيض، فاقتصر دورها على مجرد التصديق على رؤى واشنطن، بينما يبقى المسار الآخر، وهو تجاوز الاتحاد الأوروبي الحدود المتعارف عليها للمنظمات الدولية، فأذاب سيادة الدول، وقلص القوى القارية الكبرى، لتعمل تحت إدارة كيان واحد، في حين أن المسار الثالث يتجلى في غياب القضية المركزية، في القارة العجوز، فصارت قضيتها الأساسية هي العداء لروسيا، والهدف لم يكن خدمة مصالحها بقدر ما كان خدمة مصلحة الدولة القائد للمعسكر الغربي، وهي الولايات المتحدة.
ورغم اختلاف المسارات الثلاثة في طبيعتها، إلا أنها حملت عنصرا مشتركا، وهو الولايات المتحدة، حيث كانت المستفيد الأكبر منها جميعا، فالتبعية لها يضمن لها دور القيادة، بينما تبقى سيطرة الاتحاد على أعضاءه، وإن كان في ظاهره تعزيز قوة القارة، فإن يقلص خصوم واشنطن، حال نشوب المواجهة معها، فبدلا من الصراع مع قوى كبرى بحجم بريطانيا وفرنسا، وإسبانيا، وغيرها من القوى المعروفة بتاريخها الامبراطوري، تصبح المواجهة مع طرف واحد وهو الاتحاد الأوروبي، بعد تقليص صلاحيات أعضاءه والنيل من قوتهم، في حين أن غياب القضية المركزية فتح الباب على مصراعيه أمام انكفاء القارة العجوز على تحقيق المصالح الأمريكية، ولو على حساب مصالحها المستقبلية التي لم تلتفت إليها، وهو ما يبدو حاليا في الموقف من روسيا.
وبالنظر إلى الواقع الحالي، نجد أن ثمة تغييرات، حملت إرهاصات كبيرة منذ بداية حقبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأولى، والتي تصاعدت خلالها النزعة العدائية تجاه القارة فرديا وجمعيا، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، وهو ما دفع الأوروبيين في المقابل إلى تغيير النهج تدريجيا، فسعت إلى الاستقلال عن القرار الأمريكي، بينما استعادت قوى قارية جزءً ملموسا من دورها التاريخي، عبر قيادة القارة العجوز، وتشكيل مواقفها، بعيدا عن حالة الاتحاد، وهي الأمور التي تجلت في أبهى صورها مؤخرا، فيما يتعلق بمراحل العدوان على غزة، والذي بدأ بتماهي تقليدي مع الرؤى الأمريكية، عبر التذرع بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، بينما تغير نحو بيانات الإدانة للدولة العبرية، ثم عمليا عبر التصويت لصالح قرارات أممية بوقف إطلاق النار، مما أحرج واشنطن، ووضعها في خانة “الرافض” الوحيد، أو بالأحرى المعزول عن عالمها الغربي، ثم بعد عبر قرارات فردية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، انتصارات للشرعية الدولية.
المشاهد سالفة الذكر، وإن كانت تمثل تغييرا عميقا في العلاقة مع الولايات المتحدة، فهي في واقع الأمر علامة كبيرة على استعادة الدور، عبر الانتصار لجوانب أخلاقية، طالما استخدمتها واشنطن في صراعاتها، لشرعنة إجراءاتها في العديد من المواقف الدولية، على غرار الديمقراطية وحقوق الإنسان، لتصبح للمرة الأولى في خدمة مصالح أوروبا، وربما تكون هذه العودة الأخلاقية للقارة، رغم تأخرها، هي الخطوة الأولى لاستعادة ذاتها السياسية، بعد عقود من الانصهار في القرار الأمريكي، لتبدأ مرحلة جديدة من التوازن مع واشنطن لا التبعية لها.
وأما عن المسار الثالث، وهو غياب القضية المركزية، فقد كان نتيجة طبيعية لانفصال أوروبا الجغرافي عن مناطق الصراع، وتراجع دور روسيا بعد الحرب الباردة، ففقدت القارة البوصلة التي تجمعها، وتحولت إلى تكتل اقتصادي بلا رسالة حضارية، ومن ثم تصاعد التنافس بين عواصمها الكبرى، على غرار برلين ولندن وباريس، فصار الاتحاد إطارا إداريا لا مشروعا سياسيا، وانكمش مفهوم “الأمن الأوروبي المشترك” إلى مجرد تابع لحلف الأطلسي، ومع تصاعد الأزمة الأوكرانية، بدا هذا الخلل أوضح من أي وقت مضى، فالحليف الأمريكي يتراجع، والمصالح بين العواصم الأوروبية تتضارب، لتجد القارة نفسها بلا قضية تجمعها ولا رؤية توجهها.
ولكن مع ذلك، فهناك خطوات ملموسة، تتخذها القارة، سواء جماعيا، عبر الاتحاد الأوروبي، والذي انغمس في شراكات استراتيجية مع قوى إقليمية ودولية مؤثرة، وعلى رأسها تلك الشراكة التي أبرمها مع مصر، وكذلك انخراطه في التعاون مع الصين، رغم صراعها التجاري مع واشنطن، أو من خلال الدول، والتي باتت تتلمس الطريق نحو تضييق فجوات الخلاف فيما بينها، وهو ما بدا في زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بريطانيا، رغم ما يشوب العلاقة بينهما من تنافس، في محاولة لخلق شراكة ثنائية، من جانب، وإحياء العلاقة بين لندن والاتحاد بعد فتور الانفصال من جانب آخر.
أوكرانيا تمثل بعدا قاريا مركزيا، يمكنه أن يشكل مركزا للمشتركات بين القوى الرئيسية في أوروبا، وهو ما يمكن البناء عليه في المستقبل، في إطار تعزيز المصالح المشتركة بين دول القارة، وبالتالي توجيه بوصلة الاتحاد، بعدما كان الأخير هو الموجه لبوصلة القوى القارية الكبرى، فيما يتعلق بالعديد من القضايا، والتي باتت في حاجة إلى مزيد من الاستقلالية، عن الحليف الأمريكي، منها ما يرتبط بالأمن والاقتصاد، والثقافة، في إطار خلق هوية مشتركة، تتسم بقدر من التناغم، وهو النهج الذي قد يساهم بصورة أو بأخرى، في استعادة النفوذ الأوروبي، والوصول إلى حلول فيما يتعلق بأزماتها، بعيدا عن المواجهات المباشرة، سواء في صورتها الباردة أو الساخنة.
غير أن المقصود هنا ليس تحويل أوكرانيا إلى ساحة دائمة للمواجهة أو الإبقاء على حالة الصراع مع روسيا، وإنما التعامل معها كقضية اختبار للقدرة الأوروبية على إدارة الأزمات في محيطها المباشر بآليات سياسية واقتصادية مستقلة، بعيدًا عن منطق الحرب الباردة أو الوصاية الأمريكية، فالقضية الأوكرانية يمكن أن تكون مدخلًا لإعادة تعريف الأمن الأوروبي، لا ذريعة لاستنزافه في نزاعات لا تنتهي.
وهنا يمكننا القول بأن استعادة أوروبا لتأثيرها الدولي لا يرتبط فقط بالاستقلالية عن واشنطن، وهو ما تتحرك نحوه بثبات ملموس في الآونة الأخيرة، وإنما في استغلال المعطيات الحالية على الساحة، لخلق قضية مركزية، يمكن من خلالها تعزيز المشتركات، مما يساهم في تقليل حدة التنافسية، من جانب، وخلق الهوية الجمعية المفقودة من جانب آخر، مما يساهم في إعادة هيكلة حالة الوحدة القارية مجددا، لتنصب على المصالح الجمعية لدولها، بعيدا عن العمل لحساب قوى أخرى.

