لا شك في أن الذي تحقق لنا في «اليونيسكو» فوز عظيم، لكنه أيضاً مسؤولية كبرى، وامتحان ظهرت نتيجته قبل أن نؤديه. وبقي علينا أن نثبت حقنا فيما حصلنا عليه.
فوز عظيم لأنه ثقة عظيمة في كفاءتنا، واعتراف من العالم كله بما قدمناه للحضارة الإنسانية، وبما لا نزال نقدمه حتى الآن، في الوقت الذي نتعرض فيه لحرب الإبادة التي يشنها علينا هذا الكيان الذي زرعه المستعمرون الغربيون في بلادنا، وجعلوه دولة بعد ثلاث سنوات من إنشاء منظمة «اليونيسكو» التي أُنشئت سنة 1945 بعد الحرب العالمية الثانية ليخرج بها العالم من مناخ الحرب، ومن السياسات التي تقوم على التمييز والعنصرية، وتؤدي إلى العزلة والتمزق والصدام، إلى مناخ يسوده السلام، ويحترم فيه الجميع مبادئ الحرية وحقوق الإنسان والإيمان بوحدة الحضارة الإنسانية التي أسهم في بنائها البشر جميعاً على اختلاف أجناسهم وتعدد ثقافاتهم.
ولا شك في أن هذه الأهداف، التي أُنشئت المنظمة من أجل الوصول إليها، كانت حاضرة لدى أعضاء المجلس التنفيذي للمنظمة الذين انتخبوا الدكتور خالد العناني مديراً عاماً للمنظمة بأغلبية ساحقة كادت تكون إجماعاً، إذ بلغ عدد الأصوات التي حصل عليها 55 صوتاً من 57 صوتاً عبَّرت، كما ذكرت، عن اعتراف العالم بما قدمته بلادنا للحضارة الإنسانية، كما عبَّرت أيضاً عن شعور بالتضامن مع الشعب الفلسطيني، فضلاً عن شعور بالذنب لدى مَن شاركت دولهم في زرع هذا الكيان!
***
والحقيقة أن منظمة «اليونيسكو» عبَّرت من قبل عن تقديرها لما أسهمت به بلادنا في حضارة العالم، وهو ما يتجلى في الدور الأساسي الذي قامت به لإنقاذ معبد أبو سمبل من الغرق الذي كان معرضاً له عقب الانتهاء من إنشاء سد أسوان.
كما عبَّرت في بعض منشوراتها عن تضامنها مع الشعوب التي تتعرَّض للظلم على أيدي المستعمرين، وهو ما عدّه الأميركيون والإسرائيليون تحيزاً أدى لانسحابهم من المنظمة التي يجب أن نقف نحن إلى جانبها للأسباب التي جعلتها تقف إلى جانبنا. وأولها دورنا في بناء الحضارة التي بدأت خطواتها الأولى في مصر والعراق.
وأنا أقصد بهذه العبارة الأخيرة أن نكون دائماً عند حُسن الظن بنا، وأن نواصل أداء الدور الذي أداه أسلافنا في العصور الماضية، وأن نطالب المنظمة (منظمة الألكسو) التي أنشأناها في عام 1970 على مثال «اليونيسكو» وسميناها المنظمة «العربية للتربية والثقافة والعلوم» بأن تؤدي في حياتنا الدور الذي تؤديه منظمة «اليونيسكو»، خصوصاً في هذه المرحلة الراهنة التي تتعرض فيها ثقافتنا القومية لأخطار حقيقية نواجهها كل يوم في لغتنا الفصحى التي تراجعت بصورة تنذر بمصير لا نستطيع أن نحتمله، لأن الفصحى هي العمود الفقري للثقافة العربية، والثقافة هي الرابطة الوحيدة التي تجمعنا في هذه الأيام، وهي التي نعتمد عليها في السعي لتحقيق الوحدة العربية التي نسعى لتحقيقها أياً كانت صورتها.
وفي النصف الأول من القرن الماضي كانت المنابر الثقافية متمثلة في المجلات الأدبية، والإذاعات، والفرق المسرحية تؤدي في حياتنا القومية الدور الذي كنا ننتظر أن تؤديه معها منابر إضافية. وكانت الجامعات تستقبل الطلاب من مختلف الأقطار.
وكان الكتاب والشعراء والفنانون يتنقلون من قطر لقطر، ويمارسون نشاطهم في مختلف الفنون. وقد توقف هذا النشاط أو كاد في المرحلة الأخيرة بدلاً من أن ينمو وينتشر ويزدهر. والسؤال: أين «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم» من هذه الأخطار التي أُنشئت هذه المنظمة لمقاومتها، وللتمكين للوحدة الفكرية بين أقطار الوطن العربي، ورفع المستوى الثقافي، ودعم الثقافة العربية داخل الوطن وخارجه، ومد جسور الحوار والتعاون بين ثقافتنا والثقافات الأخرى في هذه المرحلة التي شهدت تطوراً ملحوظاً في موقف العالم منا، نجده في اختيار الدبلوماسي المصري بطرس بطرس غالي أميناً عاماً للأمم المتحدة، كما نجده في هذا الاعتراف، المتمثل في «جائزة نوبل»، بما يقدمه الأدباء والعلماء العرب المعاصرون للثقافة الإنسانية أمثال نجيب محفوظ في الأدب، وأحمد زويل في الكيمياء، وبعدهما عمر ياغي العالم الفلسطيني أستاذ الكيمياء في جامعة كاليفورنيا، وقد حصل على الجائزة في الأيام الأخيرة.
***
والعالم إذن يتطور، وتظهر فيه قوى جديدة، لا تستطيع الدول الكبرى التي كانت تتحكم فيه من قبل أن تتجاهلها، بل تجد نفسها مضطرة لأن تتغير وترضى بالأمر الواقع. وهذا ما رأيناه بوضوح في اعتراف الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية. وهو تطور جوهري نراه أيضاً في انتخاب الدكتور خالد العناني مديراً عاماً لمنظمة اليونيسكو، وفي فوز العالم الفلسطيني بـ«جائزة نوبل».
وفي الوقت الذي يظهر فيه هؤلاء النوابغ وينالون اعتراف العالم بتفوقهم، ويحصلون على أعظم الجوائز، ويحتلون أرفع المقاعد في الجامعات، في هذا الوقت تتراجع الثقافة العربية. وتلك هي المفارقة التي يجب أن نواجهها، وأن نتجاوزها إلى وضع تكون فيه ثقافة هؤلاء النوابغ صورة متقدمة من ثقافتنا العامة تمثلها وتدل عليها.
وهذا هو الهدف الذي يجب أن يكون هدف الجميع في هذه المرحلة التي يقفز فيها العالم بسرعة غير معهودة ليدخل في عصر جديد لن يكون فيه مكان للأمية التي لا نزال نعاني منها بصورها المختلفة، الأمية الأبجدية الموروثة، والأمية الثقافية، وهي خطر لا نلتفت إليه كما يجب، ولا نتحدث عنه، ولا نتصدى له، لأنها أمية مقروءة ومكتوبة ومنشورة في كتب وصحف، ومذاعة في إذاعات مسموعة ومرئية.
والذين يعانون من هذه الأمية يظنون أنهم مثقفون ويجدون أيضاً مَن يراهم كذلك. أما الأمية الأبجدية فهي عجز لا ينكره الأمي البسيط الذي لم يتح له أن يتعلم القراءة والكتابة، فهو راضٍ بالنصيب الذي يحصل عليه من الثقافة الشعبية الشفاهية. وقد آن لنا أن نتصدى لهذه الأمية بصورها المختلفة. وإذا كنا قد أصبحنا في هذه الأيام مسؤولين عن خدمة ثقافات العالم، فنحن مسؤولون دائماً عن خدمة ثقافتنا التي بدأت بها الثقافة الإنسانية في العصور القديمة، وانتفعت بها النهضة الأوروبية في العصور الوسطى.

