الوضع الراهن: انخفاض أسعار النفط وتأثيره على الاقتصاد العراقي
تتسارع مؤشرات التراجع في الأسواق النفطية العالمية، فيما يدخل الاقتصاد العراقي مرحلة حرجة من الاختبار المالي مع انحدار الأسعار إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2021. لم يعد الحديث يدور حول تقلبٍ دوري، بل عن مسار نزولي مستمر يعيد طرح السؤال الأهم: إلى أي مدى يمكن للدولة أن تحافظ على توازنها المالي في ظل اعتمادها شبه الكامل على النفط كمصدر للإيرادات العامة؟
تأثير انخفاض أسعار النفط على الإيرادات الحكومية
سجل خام البصرة الثقيل 59.59 دولارًا للبرميل، فيما بلغ خام البصرة المتوسط 60.74 دولارًا، وهو انخفاض يعيد إلى الأذهان تحذيرات الخبراء من أن أي تراجع بمقدار دولار واحد في سعر البرميل يعني خسارة تتجاوز مليار دولار سنويًا من الإيرادات الحكومية. ومع تضخم الإنفاق التشغيلي وارتفاع الدين الداخلي، تصبح الموازنة أشبه بحقل اختبارٍ هشّ أمام كل اهتزاز في السوق العالمية.
رؤية الخبراء: التحذيرات والتحليلات
الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي يرى أن المشهد الراهن يقترب من "السقوط الحر" لأسعار النفط، داعيًا إلى ما وصفه بـ"تجميد البذخ الانتخابي وتشكيل خلية أزمة حكومية عاجلة". ويضيف أن "المطلوب فورًا هو إيقاف الصرف المفرط على الحملات الانتخابية التي تجاوزت حدود المعقول". المرسومي يشير كذلك إلى أن استمرار هذا التراجع قد يؤدي إلى "ارتفاع الدين الداخلي إلى مستويات خطيرة مع نهاية العام".
التاريخ الاقتصادي للنفط في العراق
الباحث نبيل جبار التميمي يروي قصة النفط العراقي باعتبارها مرآة لرحلة الدولة نفسها. فبعد تأميم النفط عام 1972، دخل العراق مرحلة ازدهار نسبي حتى عام 1980 بإنتاجٍ بلغ أكثر من 3 ملايين برميل يوميًا، قبل أن تتراجع الصناعة بسبب الحرب مع إيران. ويقول التميمي أن صناعة النفط في العراق كانت دائمًا رهينة السياسة أكثر من الاقتصاد.
التحديات الاقتصادية وضرورة التغيير
تشكل الإيرادات النفطية أكثر من 90% من إجمالي الإيرادات العامة، وتغطي ما يزيد على 95% من تمويل الموازنة، ما يعني أن الاقتصاد العراقي لا يتحرك إلا بارتفاع الأسعار ويتباطأ بانخفاضها. الخبير الاقتصادي منار العبيدي يرى أن التراجع الحالي في الأسعار "ليس أزمة طارئة، بل اختبارٌ للبنية الريعية نفسها". ويضيف أن "المشكلة لا تُقاس بسنة مالية واحدة، بل بمدى استعداد الدولة لإدارة عقدٍ كامل من الصدمات الاقتصادية".
مستقبل الاقتصاد العراقي: التحديات والفرص
تُظهر القراءة الاقتصادية المتكاملة أن انخفاض أسعار النفط الحالية ليس مجرد أزمة مالية مؤقتة، بل إنذار استراتيجي لنموذجٍ لم يعد صالحًا للاستمرار. الدعوة إلى إعادة تعريف علاقته بالنفط، من مصدر ريعي للإنفاق إلى رافعة تنموية للانتقال نحو اقتصاد إنتاجي متنوع، تصبح أكثر إلحاحًا. السؤال الأخطر الذي يواجه صناع القرار اليوم: هل يتعامل العراق مع النفط كـ"مورد مؤقت" يُستثمر لبناء المستقبل، أم كـ"مورد دائم" يُستهلك في الحاضر؟

