في مشهد سياسي مكثف، يقدم الرئيس الأميركي دونالد ترمب نفسه على المسرح العالمي بوصفه صانع سلام، في أداء يبدو أنه يسابق الزمن لنحت إرث تاريخي يتجاوز حدود الولايات المتحدة. فبينما يواصل إحكام سيطرته على مفاصل مؤسسات الدولة في الداخل الأميركي، يتجه طموحه بشكل واضح نحو تحقيق إنجاز دولي يضعه في مصاف الرؤساء التاريخيين، وربما يحقق حلمه بالحصول على جائزة نوبل للسلام التي سبق أن نالها سلفه باراك أوباما، في مفارقة تعكس مدى التحولات في السياسة الأميركية.
وقد جاء إعلان الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، يوم الاثنين، عن عزمه على منح ترمب أعلى وسام مدني في البلاد، ليعزز هذا الطموح ويمنحه زخماً إعلامياً وسياسياً. هذا التكريم، الذي جاء تقديراً لدور ترمب المحوري في تأمين إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين في غزة والمساهمة في إنهاء الحرب، يمثل دفعة قوية لسردية «ترمب صانع السلام»، وهي السردية التي يعمل فريقه على ترسيخها بكل جدية.
لم تكن زيارة ترمب الخاطفة لتل أبيب وشرم الشيخ مجرد رحلة دبلوماسية عابرة، بل كانت عملاً سياسياً مدروساً وموجهاً لكُتّاب التاريخ. فخلال أربع ساعات فقط في تل أبيب، تمكن ترمب من أن يصبح رابع رئيس أميركي (والثاني من الجمهوريين بعد رونالد ريغان) يخطب أمام الكنيست، مؤكداً عمق التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وإسرائيل. كما أن لقاءه المحسوب بعناية مع عائلات الأسرى الإسرائيليين عزَّز صورته بوصفه قائداً يوازن بين الحزم السياسي والتعاطف الإنساني. يأتي ذلك قبل توجهه إلى قمة السلام في شرم الشيخ. تلك الرحلة التي لا تقل أهمية عن زيارة تل أبيب، إذ إن جلوسه على طاولة واحدة مع عدد من قادة العالم والرئيس الفلسطيني محمود عباس، يهدف إلى رسم ملامح نظام إقليمي جديد يكون هو مهندسه.
ولكن، ما الذي يفسر هذا الإصرار من ترمب على تحقيق بصمة في السياسة الخارجية؟ الإجابة، من منظور سوسيولوجي، تكمن في الداخل الأميركي. يدرك ترمب وفريقه الاستشاري جيداً أن إرثه المحلي سيبقى إلى الأبد مرتبطاً بحالة الاستقطاب الحاد، والانقسام المجتمعي الذي طبع فترته الرئاسية. لقد كان رئيساً استثنائياً في قدرته على تعبئة قاعدته الشعبوية، ولكنه في الوقت نفسه أحدث شرخاً عميقاً في النسيج الاجتماعي والمؤسسي الأميركي. هذا الإرث الداخلي المضطرب يجعله في أمسّ الحاجة إلى «إرث موازٍ» في الخارج، إرث لامع ومشرق يعيد التوازن إلى سيرته التاريخية ويقدمه كقائد ذي رؤية عالمية.
إنَّ حرص دونالد ترمب على أن يُخلد في التاريخ بوصفه رجل دولة عظيماً ترك بصمة على المسرح العالمي، ليس مجرد طموح شخصي، بل هو استراتيجية سياسية واعية لموازنة صورته. فهو يرى في اتفاقيات السلام والتكريمات الدولية أداة فعالة لإنقاذ إرثه من أن يختزل في كونه «الرئيس الذي قسّم أميركا». من هنا، يمكن فهم تحركاته الأخيرة ليس فقط كقرارات سياسية، بل كفصول تُكتب بعناية في سيرة ذاتية يأمل أن تكون نهايتها مجيدة قبل أن يترك البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) 2029. ويبقى السؤال مفتوحاً حول ما إذا كانت هذه الإنجازات الخارجية – مهما بلغت أهميتها – كفيلة بإقناع المؤرخين بإعادة تقييم رئاسته التي حفرت عميقاً في الوعي الأميركي والعالمي.

