أزمة التدريب في الجيش العراقي: قراءة في هشاشة المؤسسة العسكرية
مقدمة
يأتي الحديث عن واقع التدريب في الجيش العراقي في مرحلةٍ دقيقة من التحولات الإقليمية التي تعيد رسم موازين القوى في الشرق الأوسط، حيث تتراجع مظلة الوجود الأمريكي العسكري المباشر، وتتزايد ضغوط الاعتماد الذاتي على المؤسسات الوطنية. وفي هذا الإطار، يشكّل ملف التدريب العسكري أحد أكثر مفاصل الدولة حساسية، لأنه يُعدّ المؤشر الحقيقي على مدى قدرة العراق على إدارة أمنه دون وصايةٍ أو دعمٍ خارجي.
تاريخ إعادة البناء
منذ عام 2003، أعيد بناء الجيش العراقي في بيئةٍ سياسيةٍ مضطربة، كانت فيها واشنطن اللاعب المركزي في رسم عقيدته وهيكلته وتسليحه. ومع مرور السنوات، تراجع الحضور الأمريكي تدريجيًا، لكن تبعية المنظومة التدريبية بقيت قائمة بفعل فراغٍ إداريٍ مزمن داخل وزارة الدفاع، وعقليةٍ تنظيميةٍ لا تزال تميل إلى الطرق التقليدية في إدارة الملف العسكري. هذه التركيبة جعلت من "التدريب" ساحة اختبارٍ لمدى استقلال القرار العراقي، في ظل مؤشراتٍ متكررة على هشاشة الدعم اللوجستي وضعف التنسيق بين القيادة العليا والمستوى الميداني.
التحديات الأمنية
ولا يمكن فصل أزمة التدريب عن السياق الأمني الأوسع الذي يعيشه العراق. فالتحديات لا تتعلق فقط بقدرات الجيش على استدامة جاهزيته، بل أيضًا بتأثيرات البيئة الإقليمية التي يراوح فيها العراق بين النفوذ الأمريكي من جهة، والضغوط الإيرانية من جهة أخرى، وسط مؤسساتٍ عسكرية تحاول أن تبقى مهنية في نظامٍ سياسيٍ شديد التسييس. ولهذا، فإن ما عبّر عنه قادة الجيش من "إحباطٍ" إزاء غياب دعم وزارة الدفاع لا يمثل شكوى إدارية فحسب، بل يعكس أزمةً بنيوية في علاقة الدولة بمؤسساتها، وفي قدرتها على بناء منظومة دفاعٍ وطنيّ مستقل عن الخارج، وقادر على إنتاج الكفاءة لا استيرادها.
واقع التدريب
مجلة Stars and Stripes العسكرية الأمريكية، نشرت تقريرًا مطوّلًا تناولت فيه أوضاع الجيش العراقي قبيل الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية وإيقاف التعاون في مجال التدريب، كاشفةً عن “إحباطٍ واضح” لدى قادة ميدانيين عراقيين من غياب دعم وزارة الدفاع لبرامج التدريب الحديثة. وقالت المجلة، إنّ “الضباط العراقيين المسؤولين عن تدريب الجيش يشتكون من عدم تعاون وزارة الدفاع فيما يتعلق بتزويدهم بالذخيرة الحية اللازمة لتنفيذ التدريبات العملية، ما لم يتدخل الجانب الأمريكي بشكل مباشر”.
التمويل والتدريب
ونقلت المجلة عن العقيد عباس فاضل، قائد مدرسة بسماية للتدريب العسكري، قوله إنّ “المدرسة ستتحول إلى مدرسة للتدريب المزيف في حال انسحاب المدربين الأمريكيين”, مضيفًا أنّ “العقول التقليدية في القيادة العليا ترفض تبنّي وسائل التدريب الأمريكية التي تعتمد على الواقعية والتكرار، وتفضّل الاعتماد على المحاضرات النظرية القديمة التي اعتاد عليها الجيش سابقًا”. وأضاف التقرير أن “حتى الحصول على الذخيرة الحية من وزارة الدفاع يعدّ أمرًا صعبًا دون تدخل الأمريكيين”، وهو ما أكده القادة من الجانبين العراقي والأمريكي في مدرسة بسماية.
التحديات المالية
وأشارت المجلة إلى أنّ القلق لا يقتصر على الذخيرة فقط، بل يمتدّ إلى التمويل، إذ قالت إنّ “الجيش الأمريكي والمتعاقدين الأجانب ينفقون نحو 30 ألف دولار لتشغيل أهداف متحركة بالحاسوب في ميدان الرمي ببسماية، وهو تمويل قد لا يستمر في حال توقف الدعم الأمريكي”. وأضافت أنّ “قلق الضباط العراقيين من توقف التدريب الواقعي أمرٌ مبرر، بالنظر إلى شعورهم بعدم اهتمام حكومتهم بتوفير الدعم اللوجستي المطلوب”.
الخلاف بين الضباط
ونقلت المجلة عن العقيد موفق ناصر، نائب قائد معسكر بسماية، قوله: “وجود شخصين فقط من المدربين الأمريكيين يسمح لنا بالحصول على دعمٍ كبير، وأخشى أننا لن نتلقى أي دعم من وزارة الدفاع في حال انسحابهم الآن.” وختمت المجلة تقريرها بالإشارة إلى أنّ العقيد عباس فاضل يحظى باحترامٍ كبير من الضباط الأمريكيين، رغم أنّ علاقته بقياداته العراقية تواجه ضغوطًا متزايدة بسبب “إصراره على تقديم تدريبٍ فعّال ومهني للجنود”.
التحديات السياسية
تُظهر أزمة التدريب في الجيش العراقي أن جوهر الخلل لا يكمن في ضعف الإمكانيات أو نقص الدعم الخارجي، بل في تغلغل القرار السياسي داخل البنية العسكرية حتى فقدت استقلالها المهني. فالسياسة، التي يفترض أن ترسم الإطار العام للأمن الوطني، أصبحت تتدخل في تفاصيل الميدان، وفي نوع التدريب، ومَن يُدرَّب، وكيف يُدار الملف. وبهذا، تحوّل الجيش من مؤسسة تنفيذية خاضعة للدولة إلى مساحة نفوذ تتقاطع فيها المصالح الحزبية مع الحسابات الشخصية.
الحلول
وفقاً لمتخصصين في الشأن العسكري، لقد أنتج هذا التدخل المستمر حالة من الارتهان الداخلي، جعلت القرارات العسكرية تُدار وفق اعتبارات التوازن السياسي لا مقتضيات الكفاءة. فكلّ تأخير في إطلاق تدريب، أو تجميد في صرف الذخيرة، أو تبديل في المناهج القتالية، يعكس إرادة سياسية ترى في “جيش قوي” احتمالًا لإضعاف نفوذها، لا ضمانة لأمن الدولة. ومع الوقت، ترسّخت ثقافة داخل المؤسسة العسكرية تتجنب الصدام مع السلطة السياسية حتى على حساب المهنية والاحتراف.
خاتمة
وفي ظل هذه المعادلة، يصبح ضعف التدريب ليس نتيجة إدارية بل قرارًا غير معلن، تُعيد من خلاله القوى السياسية إنتاج هشاشة الجيش للحفاظ على موازينها الخاصة. إنّ إصلاح المؤسسة العسكرية لا يبدأ بشراء السلاح أو استقدام المدربين، بل بتحييد القرار الأمني عن النزاعات السياسية، وإعادة الاعتبار للضابط كفاعل وطني لا كأداة في لعبة النفوذ. حينها فقط يمكن أن تعود المؤسسة العسكرية إلى موقعها الطبيعي: حاميةً للدولة، لا رهينةً لتقاسماتها.

