يردد المتشائمون بأن خطة السلام في غزة سوف تنتهي هناك، ولن ينتج عنها تقدم تجاه تأسيس دولة فلسطينية، وهذا ما يُحاول رئيس الوزراء الإسرائيلي الإيحاء به لحلفائه في الحكومة، وقد يكون ذلك صحيحاً، لكن الأكثر احتمالاً أن حل الدولتين أصبح الوصفة السحرية التي تؤمن بها شعوب العالم قبل الحكومات، وترى فيه المخرج الآمن من الطريق المسدود الذي أوصلهم إليه نتنياهو، ولهذا تَكَوّن شبهُ إجماع دولي على هذا الحل، بما في ذلك مؤشرات بأن الولايات المتحدة وإسرائيل قد تقبلان به في نهاية الأمر ولو على مضض.
صحيح أن خطة ترمب تُركِّز على غزة، ولكنها تضم إشارات، ولو مبهمة ومشروطة، إلى الدولة الفلسطينية. مرّت الخطة بمسودات عدة، أخذت في الاعتبار تعديلات أطراف عديدة، ولكن الفقرة «19» من النسخة التي أصدرها البيت الأبيض تنص على أنه: «في الوقت الذي تمضي فيه إعادة التنمية قدماً في غزة، وبعد أن يُستكمل تنفيذ إصلاح السلطة الفلسطينية بدقة، فإن الظروف ربما تكون مهيأة في آخر المطاف للانخراط في مسار موثوق به نحو تقرير المصير للفلسطينيين والدولة الفلسطينية، وهو ما نُدرك أنه طموح الشعب الفلسطيني». وبهدف طمأنة إسرائيل أكثر، تنصُّ الفقرة «20» على أن الولايات المتحدة، وليس الأمم المتحدة، «سوف تؤسس حواراً بين إسرائيل والفلسطينيين للتوصل إلى اتفاق بشأن الأفق السياسي للتعايش السلمي والازدهار المشترك».
أتت هذه الشروط ضمن التعديلات التي أصر عليها نتنياهو لقبول الخطة، ووافق عليها البيتُ الأبيض ليتمكن من تمريرها. ومع ذلك فإن الإشارة إلى الدولة الفلسطينية في الخطة تُمثل تطوراً مهماً في موقف نتنياهو الذي حارب الفكرة لسنوات طويلة.
والأهم من ذلك أنها أول إشارة علنية تدعم حل الدولتين تصدر عن إدارة ترمب الحالية، إذ قاومت طيلة الأشهر الماضية الجهود الدولية التي قادتها المملكة العربية السعودية وفرنسا لتحقيق هذا الحل، مُتخليّة عن السياسة الثابتة للولايات المتحدة منذ عام 1993، بل لجأت إلى بعث رسائل دبلوماسية شديدة اللهجة إلى عشرات الدول لدفعها لمقاطعة هذه الجهود، والتهديد بإجراءات قاسية ضد أي دولة تعترف بدولة فلسطين، وفي الشهر الماضي رفضت السماح للرئيس الفلسطيني بحضور اجتماعات نيويورك، بعد أن كانت الإدارات الأميركية السابقة تستقبله في البيت الأبيض. ولهذا، فإن تلك الإشارات إلى الدولة الفلسطينية في خطة غزة مهمة، لأنها تعني أن الولايات المتحدة لن تستمر في محاولة إفشال الجهود الدولية القائمة. أما اعتراف أميركا نفسها بالدولة فقد تحتفظ به لاستخدامه عامل ضغط على إسرائيل، أو ترغيب للفلسطينيين في المفاوضات المقبلة.
وفي أغلب الاحتمالات سوف تنضم واشنطن مستقبلاً إلى الإجماع العالمي بضرورة قيام الدولة الفلسطينية؛ لأنه الطريق الوحيد نحو السلام والاستقرار و«الرخاء المشترك» الذي تبشر به، وهو الطريق المؤكد لنزع فتيل الصراع وهزيمة الإرهاب والتطرف في المنطقة. فبعد الإبادة الجماعية في غزة أصبح قطار حل الدولتين أكثر تصميماً على المُضيّ قدماً، إذ أدركت الدول التي ترددت في الماضي الثمن الباهظ لذلك التسويف في إقرار حق الفلسطينيين المشروع في دولتهم المستقلة.
بعد فظائع العامين الماضيين، لحقت الدول المترددة بالركب، وأعلنت الشهر الماضي في اجتماعات نيويورك عن انضمامها، فهناك اليوم نحو 160 دولة (82 في المائة من دول العالم) تعترف بفلسطين دولةً، ومعظم المتبقين ينتظرون الإشارة من واشنطن. ففي الأميركتين، لم يتبقّ سوى «الولايات المتحدة وبنما» اللتين لم تعترفا بالدولة الفلسطينية، وبالمثل في أفريقيا لم يتبق سوى دولتين، أما في آسيا فبقيت كوريا الجنوبية وميانمار واليابان، مع أن رئيس الوزراء الياباني أبلغ الأمم المتحدة بعزم بلاده على الاعتراف بفلسطين. تُعدّ أوروبا مركز الثقل في مقاومة الاعتراف؛ حيث امتنعت نحو 15 دولة حتى الآن من اتخاذ هذه الخطوة، لأسباب مختلفة، ولكن هذه الحكومات المترددة تتعرض لضغوط شعبية كبيرة للاعتراف بالدولة الفلسطينية.
كان «إعلان نيويورك» و«المؤتمر عالي المستوى للتسوية السلمية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين» أهم حدثين خلال أسبوع افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة لدورتها الـ«80» الشهر الماضي، وهو ما يُذكّر بهيمنة قضية فلسطين على غيرها من القضايا في بدايات تاريخ الأمم المتحدة. وكان واضحاً لدى كثير من الدول المشاركة أن القضية يجب أن تُحلّ عن طريق التسوية نفسها التي أقرتها خطة التقسيم لعام 1947، أي حل الدولتين، وعدّت أن اعترافها بالدولة الفلسطينية خطوة مهمة لتحقيق ذلك الهدف. وبذلك دفع المؤتمر الدول المترددة إلى حسم أمورها والإعلان عن قرارها الإيجابي، وحضرت المؤتمر معظم دول العالم، حتى تلك التي لم تعترف حتى الآن بالدولة الفلسطينية.
والمؤتمر هو إحدى الفعاليات المهمة التي يقوم بتنظيمها التحالف الدولي لحل الدولتين، الذي أعلنت عنه المملكة العربية السعودية مع النرويج وعدد من الشركاء في نيويورك أيضاً في سبتمبر (أيلول) 2024، وأصبحت قيادته الحالية لدى المملكة وفرنسا. ويقوم بعمل التحالف مجموعات عمل متخصصة في السياسة، والاقتصاد، والأمن، والحوكمة، تتولّى بلورة خطط عمل محددة في مجال تخصصها.
أصابت هذه الجهود الحكومة الإسرائيلية بالهلع، فاتخذت خطوات استباقية لجعل حل الدولتين أكثر صعوبة، بتبني قرارات تسمح بالاستيطان في مناطق واسعة من الضفة، والقضم التدريجي للأراضي المخصصة للسلطة الفلسطينية، وأطلقت يد المستوطنين في القرى الفلسطينية، وحجبت مئات الملايين من الدولارات من دخل الجمارك المخصص للسلطة بهدف إفشال المؤسسات الفلسطينية مالياً. وكلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، فتم تأسيس تحالف جديد في 27 سبتمبر لضمان الملاءة المالية للسلطة الفلسطينية، وهو أيضاً بقيادة المملكة العربية السعودية وبعض الدول المانحة المهمة، مثل اليابان وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا وسويسرا والنرويج. ولهذا يظل عمل التحالف الدولي لحل الدولتين بعد بدء تنفيذ خطة غزة أكثر أهمية من أي وقت مضى، لأخذ هذه المسيرة إلى هدفها المنشود.

 
									 
					

