منذ الثورة الفرنسية (1789) والحروب النابولونية التي اندلعت مطلع القرن التاسع عشر (1803 – 1815)، شهدت فرنسا مزيجاً من النمو والركود والانتكاسات، كما واجهت تحدّيات اقتصادية مرتبطة بالثورة الفرنسية. لكن على الرغم من تحقيق بعض التقدم والتصنيع والحمائية في القطاع المصرفي والمالي، فإنها تخلّفت عن الدول الأخرى من حيث التنمية الصناعية، وعن لَعِب دور مميّز في المجال الاقتصادي والجيوسياسي لفرنسا.
انتُخب السياسي الفرنسي «الوسطي» والمصرفي السابق في بنك «روتشيلد»، إيمانويل ماكرون، رئيساً ثامناً للجمهورية الخامسة في 14 مايو (أيار) عام 2017، وحظي بترحيب واسع بوصفه الرئيس الذي سيحوّل فرنسا إلى واجهة استثمارية رائدة على مستوى العالم من خلال خفض الإنفاق وخفض الضرائب.
يُعزى نجاح الرئيس ماكرون في الانتخابات بنسبة 66 في المائة في الجولة الثانية إلى عوامل عدة، من بينها فضيحة الوزير السابق فرنسوا فيون، مرشح حزب الجمهوريين، بسبب «قضية فيون»، أو «قضية بينلوب» المالية المتعلقة بتوظيفات وهمية لأقاربه، وكذلك لتفوّقه على زعيمة الكتلة البرلمانية لحزب «التجمّع الوطني» اليميني المتطرّف، مارين لوبان، ليصبح أصغر رئيس للجمهورية في تاريخ فرنسا في عمر الـ39 عاماً.
انتُخب ماكرون لولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية لعام 2022، وتغلّب مرة أخرى على مارين لوبان، ليصبح أول مرشح رئاسي فرنسي يفوز بإعادة انتخابه منذ الرئيس السابق جاك شيراك عام 2002. لكن أغلبية ائتلاف ماكرون الوسطي خسر في الانتخابات التشريعية لعام 2022، ما أدّى إلى برلمان معلّق وتشكيل أول حكومة أقلية في فرنسا منذ عام 1993.
في عام 2024، هزّت أركان النظام السياسي في فرنسا اضطرابات سياسية أدّت إلى تساؤلات حول الجمهورية الخامسة التي تأسّست في عهد الرئيس شارل ديغول بموجب دستور عام 1958، الذي يرتكز عليه نظام الحكم الجمهوري الحالي في فرنسا، والذي يتميّز بمنح صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية، وفي الوقت نفسه، يمنح البرلمان صلاحية إسقاط الحكومة.
في ظل نظام يعاني من الترهّل ورئيس جمهورية يواجه عزلة سياسية، وغياب ميزانية وعجز بلغ نحو 6.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2024 مقارنة بنحو 3.5 في المائة في منطقة اليورو، تعاقبت الأحداث بدءاً من حلّ البرلمان، مروراً بإسقاط البرلمان الجديد للحكومة، وصولاً إلى تغيير 4 حكومات في عام واحد وانتهاءً بالمطالبة باستقالة الرئيس.
إن الأزمة السياسية في فرنسا تزيد المخاوف في الأسواق المالية، لذا يرى محلّلون أنها تتزامن مع أخرى مشابهة في ألمانيا من شأنها أن تعيق الجهود الرامية إلى معالجة العجز في أوروبا، وتزيد من تراجع قدرتها التنافسية. وإن الفراغ السياسي في فرنسا وألمانيا (الدولتين الأكثر نفوذاً في الاتحاد الأوروبي) يُنذر بصعوبات كبيرة يواجهها الاقتصاد الأوروبي الذي يعاني أصلاً من الركود. وما يزيد الطين بلّة هو تهديدات الرئيس ترمب الرامية إلى فرض رسوم جمركية بنسبة 10 في المائة على السلع الأوروبية، إضافةً إلى الوضع الاقتصادي المتدهور بسبب الأزمة الفرنسية، ما ينذرنا أيضاً بقدوم أوروبا على مواجهة مشاكل سياسية واقتصادية كبيرة وكثيرة.
وفي السياق، فإن تفاقم الوضع السياسي والحكومي في فرنسا يؤثر سلباً على التوتّرات المالية بالنسبة لليورو، وعلى التدفقات الأجنبية إلى السندات الفرنسية، ويؤثر بشكل مباشر على فقدان الثقة بالسوق الفرنسية وثقة المستثمرين، ويلقي بظلاله الثقيلة على الاقتصاد وعلى العديد من القطاعات الحيوية؛ كقطاع السياحة الذي يشكل أكثر من 8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي وقطاعي النقل والطاقة. أضف إلى ذلك ارتفاع الديْن العام في عهد الرئيس ماكرون، الذي قفز في الربع الثالث من عام 2024، إلى مستويات تدعو للقلق حيث وصل إلى 33.3 مليار يورو، أي ما يعادل 113.7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بناءً على بيانات ينشرها المعهد الوطني للإحصاء والدراسات المصرفية. كذلك نشرت «اللوموند» الفرنسية أن هذا الرقم يشكّل زيادة كبيرة قدرها نحو 71.7 مليار يورو خلال ثلاثة أشهر، إضافة إلى زيادة سابقة بلغ قدرها ما يقارب 69 ملياراً في الربع السابق، والسبب الرئيسي لهذا الديْن المتصاعد هو الدولة نفسها التي ارتفعت التزاماتها إلى مستويات غير مسبوقة، وتهدّد الميزانية العامة الأسوأ في منطقة اليورو، وتزيد من العجز الذي بلغت نسبته 5.8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ناهيك عن زيادة البطالة والتضخّم وانخفاض اليورو، وغيرها من المشاكل الكثيرة التي تقود فرنسا إلى تعثّر مستمر.
إن هذا الواقع المرير والصعب يرخي بظلاله على الجمهورية الخامسة، ويفرض نفسه على الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، من أزمة قانون التقاعد والأجور المنخفضة للعمال إلى ارتفاع أسعار الطاقة وأزمة الخبز (الباغيت التراثي) والنقص في محاصيل القمح، وكثير غيرها، ما أدّى إلى احتجاجات وثورات والسترات الصفر… عرّضت الرئيس الفرنسي للمهاجمة من قِبل خصومه وحلفائه على السواء.
في خضمّ هذه التحوّلات يبقى السؤال: هل ستتمكّن فرنسا من إيجاد مخرج لهذه الأزمة المعقّدة، أم أنها مقبلة على فترة طويلة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي؟!

