منذ بداية المشهد، في مؤتمر صحفي، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليشكر الرئيس عبد الفتاح السيسي على إسهام مصر ودورها البارز في بناء خطة بشأن غزة. على الرغم من عدم تلبية مطالب ترامب أو سفر السيد الرئيس إليه، لتأكيد موقف راسخ وثابت لا تفاوض على السيادة المصرية أو الأمن القومي المصري. تأتي هنا الرسالة بوضوح تعبر عن أن القاهرة أرادت إغلاق هذا الملف بأقل الخسائر وأكبر قدر من المكاسب الممكنة. ورغم كل التحفظات على الخطة، فإن مجرد الحديث عن وقف الحرب، وإعادة الإعمار، والتعهد بعدم ضم الضفة أو عدم تهجير الفلسطينيين، يعد اختراقًا غير متوقع في ظل المشهد المعقد.
حيث أن مصر دفعت باتجاه الاعتراف بدولة فلسطينية، باعتبار أن هذا يغير المعادلة الدولية من حالة نزاع داخلي إلى احتلال معترف به، وهو ما يفتح الباب أمامنا لصالح الفلسطينيين لاستخدام أدوات سياسية ودبلوماسية لإرباك إسرائيل. فالاحتلال إذا أُقِر واقعه يصبح عبئًا على أصحابه، ويفضح هشاشة وجودهم.
ثم يأتي بيان حركة حماس الأخير والذي يبدو أنه حمل بصمات مصرية واضحة سواء في الصياغة المحكمة أو في المضمون، الذي التقى مع خطاب ترامب بضرورة جلوس الفلسطينيين والإسرائيليين على طاولة التفاوض. ولم يكن صدفة أن البيان صدر بعد كلمة وزير الخارجية بدر عبد العاطي، الذي أكد أن الخطة يمكن البناء عليها بمنطق “ما لا يُدرَك كله لا يُترك كله”. إسرائيل فوجئت بصدمة مزدوجة: رد حماس الحاسم، والواقعي والمنضبط، ثم إعلان ترامب وقف القصف بشكل مفاجئ، ما أوجد ارتباكًا داخليًا ملحوظًا.
ورغم أن مصر تسعى لتحقيق هدفها الأول بوقف آلة الإبادة وتخفيف الضغط الإنساني والسياسي، إلا أن التحديات لم تنتهِ. داخل حماس نفسها تلوح مخاطر انقسامات بين الجناح السياسي والعسكري، ما قد يفتح الباب أمام سيناريو حرب أهلية فلسطينية، الأمر الذي تستعد القاهرة لمواجهته عبر تقريب الفصائل ومنع انهيار البيت الداخلي.
كما أن الموقف المصري الثابت بالتأكيد على أن القضية الفلسطينية تظل محور الاستقرار الإقليمي، حيث أن إنهاء الحرب في غزة يتطلب انسحابًا إسرائيليًا كاملاً، وضمان تدفق المساعدات ومنع أي تهجير للفلسطينيين. وضرورة خلق أفق سياسي يقوم على حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967. والاعتماد على لجنة إدارية فلسطينية غير فصائلية مؤقتة لإدارة غزة، بالتوازي مع تدريب مصر لقوات أمن فلسطينية لبسط السيطرة على القطاع.
المشهد الحالي يعكس أن مصر لا تتحرك برد فعل، بل تلعب إلى الأمام، وتنقل اللعبة إلى مستوى جديد بجولة مختلفة وأدوات جديدة. ورغم وجود تحفظات ومخاوف مشروعة، فإن أغلبها يمكن الرد عليه، ويقابله في المقابل أوراق قوة تستطيع القاهرة استثمارها. نحن نتعامل مع أمر واقع يفرض أزمات طبيعية لها تداعيات جانبية، لكن المكسب الأهم هو انتزاع اعتراف دولي واسع بالدولة الفلسطينية، حتى إن لم يُذكر صراحة في الخطة، سيظل ورقة ضغط قوية، خاصة في ظل المأزق الداخلي لإسرائيل. فالأهداف الأساسية، والمعلنة فشلت.
إسرائيل كانت تحاول المماطلة لإطالة أمد الصراع لكن من منظور إدارة الصراع في الغرب، خصوصًا بريطانيا، فإن هذا النهج غير مقبول، ولن يُسمح باستمراره. إن إدارة الصراع تستمر بنفس الطريقة اللي التي يسعى لها نتنياهو. الغرب له رؤية في المشهد من زاوية مختلفة: استمرار الصراع بلا أفق يمثل تهديد للاستقرار الإقليمي، ويفتح المجال أمام موجات عنف وعدم استقرار ممكن يمتد أثرها لدوائر أبعد من الشرق الأوسط. لذلك، الغرب يسعى لفرض نوع من التوازن أو الحل المرحلي اللي يمنع الانفجار الكبير. هنا تيجي أهمية الدور المصري، كقوة قادرة على صياغة المواقف وتوجيه دفة النقاش الدولي في الاتجاه اللي يخدم استقرار المنطقة ويحقق مصالحها الاستراتيجية.
لكن يظل مستقبل الصراع في غزة مصدر قلق حقيقي، خاصة مع توقعات بأن تمتد المواجهة إلى مصر وإسرائيل في ظل التحولات الاستراتيجية داخل وزارة الدفاع الأمريكية.
حيث لا يزال مستقبل الصراع في غزة مصدر قلق، على الرغم من المؤشرات الواضحة بقبول حركة حماس مقترح الرئيس ترامب، وصدمة إسرائيلية بموافق الحركة وتجاوب ترامب، مع الأمر بإيجابية، وسط ترحيب مصري فعال. لكن هذا لا ينفي توقعات محتملة بانزلاق الأحداث إلى مواجهة أوسع تشمل مصر وإسرائيل. لذا نود الإشارة لتلك الحالة في ظل التحولات الاستراتيجية داخل وزارة الدفاع الأمريكية، التي تشهد إعادة صياغة شاملة لعقيدتها العسكرية، بما قد يعيد رسم توازنات القوى في الشرق الأوسط.
على مدى عقود، كانت إسرائيل تتحرك كذراع تنفيذية للسياسات الأمريكية والبريطانية، لتنفيذ عمليات يصعب على واشنطن ولندن القيام بها مباشرة. ومع ذلك، فإن أي مواجهة محتملة مع مصر لا يمكن أن تُعتبر مجرد صدام عابر، بل حرب وجود قد تنتهي فقط بحسم ميداني، بعد استنفاد كل الوسائل السياسية والدبلوماسية، وأدوات الحروب الغير التقليدية الجيل الرابع والخامس. التاريخ القريب يذكّر بما حدث عام 2013، حين هددت إدارة أوباما بالتدخل العسكري عقب سقوط مشروع جماعة الإخوان، لكن البنتاجون رفض، معتبرًا أي مواجهة مع مصر “انتحارًا استراتيجيًا” رغم الأزمة الاقتصادية والعسكرية التي كانت تمر بها القاهرة حينها.
هذا الموقف يعكس عقلية وزارة الدفاع الأمريكية، التي كانت حريصة على استقرار المنطقة وتجنب الصدام المباشر مع قوة إقليمية مثل مصر. لكن المشهد الراهن يختلف، مع إعادة تسمية الوزارة لتصبح “وزارة الحرب”، في إطار إعادة هيكلة القيادة العسكرية وتقليص عدد كبار الضباط، مع التركيز على “روح المحارب”، وبناء جيوش أصغر وأكثر عدوانية، مدعوم بميزانيات ضخمة قد تتجاوز التريليون دولار في 2026.
الانعكاسات الإقليمية لهذا التحول كبيرة: القواعد الأمريكية، البالغ عددها نحو 8 قواعد عسكرية في الشرق الأوسط، قد تتحول من مواقع دفاعية ولوجستية إلى منصات هجومية مباشرة، فيما قد تُعاد صياغة دور الأساطيل البحرية، مثل الخامس في الخليج والسادس في المتوسط، لاعتماد استراتيجيات هجومية. هذا يضع دول الخليج في موقف حساس، ويزيد العبء على مصر باعتبارها القوة العسكرية الوحيدة والأكبر والركيزة الأساسية للتوازن الاستراتيجي في المنطقة.
على الأرض، الوضع في غزة يظل مؤشرًا على التوتر، فإسرائيل تركز قواتها على القطاع، لكن أي مواجهة مستقبلية قد تكون مجرد مرحلة في صراع أوسع، خاصة مع اتساع رقعة التوتر بين إسرائيل وإيران، وتصاعد نفوذ الميليشيات في البحر الأحمر، وتهديد شريان الملاحة الحيوي لقناة السويس، إضافة إلى احتمالات تهجير الفلسطينيين إلى سيناء. كل ذلك يزيد من التحديات الأمنية والاقتصادية لمصر، ويستدعي الحفاظ على جاهزية عسكرية عالية.
حيث أن أي جولة تنتهي في غزة هي مجرد مرحلة في مسار صراع أوسع. الاستنتاج الأساسي أن الولايات المتحدة، رغم استمرارها في تجنب مواجهة مباشرة مع مصر، تمر بتحول استراتيجي قد يجعل الصراعات أكثر حدة في المستقبل. وهو ما يعني أن القاهرة مطالبة بالحفاظ على جاهزية عسكرية عالية، باعتبارها الضامن الأول لأمنها القومي واستقرار قرارها السياسي.
في هذه اللحظة، تحتفل مصر هذا العام بذكرى انتصارات أكتوبر 1973 في لحظة استثنائية، ليس فقط لإحياء ذكرى عبور القناة وتاريخ النصر العسكري، بل لأن مصر تخوض معركة جديدة: معركة التنمية والبناء. سيناء، التي كانت مسرحًا لأشرس المعارك، أصبحت محور استثمارات تقترب من التريليون جنيه، تشمل مشاريع بنية تحتية، سكك حديدية، موانئ، ومجمعات صناعية وزراعية، لتصبح مركز جذب إقليمي بدلًا من ساحة صراع.
والتاريخ المصري حافل بالانتصارات والمواقف المشرفة التي تجعل أي مصري يرفع رأسه عاليًا، مستندًا إلى حضارة ضاربة في الجذور. لم يحدث يومًا أن خانت مصر أو تآمرت أو تخلت عن أرضها أو حليفها. ورغم الإنجازات التنموية وصمود المصريين في مواجهة الفوضى والإرهاب، يبقى الفضل بعد الله للشعب بوعيه وإيمانه. فكونك مصريًا يعني مسؤولية الدفاع عن تاريخك وحضارتك وأرضك، وأن تكون شرسًا في الدفاع عن وطنك بحكمة ورؤية. ومن يقلل من جيش مصر أو يسخر من قيادتها، لا يعدو كونه حاقدًا متصهينًا، والترفّع عن صغائرهم لا يعني التفريط في الحق.
هذا الربط بين الأمن والتنمية هو جوهر رؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي، حيث يعكس قدرة الدولة على حماية أمنها القومي داخليًا، دون الاعتماد على قوى خارجية، كما ظهر خلال تطهير سيناء من الإرهاب بعد 2013، والذي كلف آلاف الشهداء والجرحى، لكنه أثبت قدرة القاهرة على الحسم في مواجهة التحديات الأمنية.
الرئيس عبد الفتاح السيسي ربط بين الأمن والتنمية، فمشروعات البنية التحتية والمدن الجديدة لم تكن رفاهية، بل ضرورة لحماية الداخل وتحفيز الاقتصاد. مبادرات مثل “حياة كريمة”، بقيمة 500 مليار جنيه، أعادت وصل الدولة بقرى ونجوع كانت مهمشة لعقود. القفزات التنموية شملت الزراعة عبر إضافة 4 ملايين فدان، الصناعة في مدينة “طربول” – كمثال، الصحة بالقضاء على فيروس “سي”، والتعليم التوسع في المدارس والجامعات وتطوير المناهج. هذه الإنجازات ليست أرقامًا فقط، بل أدوات لبناء جيل قادر على حماية مكتسبات الدولة.
ومع ذلك، لا يمكن فصل الإنجازات عن البيئة الإقليمية المضطربة. أحداث أكتوبر 2023، والهجمات التي شنتها حماس، جعلت الحدود الشمالية الشرقية أكثر تعقيدًا، وزادت احتمالات التداعيات الأمنية والاقتصادية. التحديات تتراوح بين احتمال تعطيل قناة السويس والخسائر الاقتصادية، وصولًا لضغوط اقتصادية ناتجة عن أزمات عالمية مثل الحرب في أوكرانيا وتقلبات أسعار الطاقة والغذاء. رغم ذلك، تبقى القضية الأساسية الاستمرار في استعادة الثقة بين الدولة والمواطن، والحفاظ على القدرة على تحويل التحديات إلى فرص، كما فعل المصريون في أكتوبر 1973، وعبروا عن إرادتهم في مواجهة الإرهاب لاحقًا.
اليوم، تعيش مصر لحظة فاصلة بين ذاكرة النصر وتحديات الحاضر. الاحتفال بانتصارات أكتوبر لا يقتصر على ذكرى عسكرية، بل يمتد لكل إنجاز تنموي، وكل مشروع يعيد صياغة سيناء، وكل خطوة تحصن الداخل ضد محاولات الهدم. الشواهد تقول إن مصر، رغم الضغوط الإقليمية والاقتصادية، مستمرة في كتابة انتصار جديد، هذه المرة باستخدام أدوات التنمية والاقتصاد بعد أن كُتب سابقًا بالسلاح، مؤكدة قدرة الشعب على تحويل الشكوك إلى يقين، والهزيمة المتوقعة إلى نصر واقع هي وبصدق على مر العصور، إرادة شعب صنعت مجد.

