لم تكن خطة الرئيس الأمريكي المتعلقة بغزة سوى إعادة إنتاج لوثيقة إسرائيلية خالصة جرى تقنينها وإخراجها بغطاء أمريكي، لتبدو وكأنها مبادرة سياسية، بينما هي في جوهرها أقرب إلى إملاءات أمنية صارمة صيغت بلغة الشروط وليست الحلول، فقد انطلقت من مرتكزات العقيدة الأمنية الإسرائيلية التي ظلت ثابتة منذ عقود، حيث نصت على نزع سلاح حركة حماس، وتفكيك بنيتها العسكرية والسياسية، ومنحت لإسرائيل حرية الحركة داخل غزة متى شاءت، وكأن السيادة الفلسطينية مجرد تفصيل ثانوي يمكن شطبه أو القفز عليه.
وهذه البنود لا يمكن إدراجها ضمن أي إطار تفاوضي مشروع، فهي لا تعبر عن مسعى للحل بقدر ما تكشف عن محاولة لإضفاء شرعية أمريكية على الرؤية الإسرائيلية، وتسويقها بوصفها مخرجًا دوليًا، وبذلك تحولت الخطة إلى أداة لتثبيت الهيمنة الإسرائيلية، وتفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها السياسي والإنساني، بدل أن تكون جسرًا نحو تسوية عادلة، لقد أراد ترامب أن يمنح إسرائيل ما عجزت عن انتزاعه في ميدان السياسة والمفاوضات، وأن يكسو الشروط الإسرائيلية بالشرعية الدولية، في مشهد يختزل الانحياز الأمريكي ويوضح الإخلال بميزان العدالة والحق.
وقد كتبت الخطة وكأن الفلسطينيين مجرد تفصيله ثانوية في معادلة أكبر، لا يستشارون في مصير أرضهم ولا يعترف لهم بحقهم الأصيل في تقرير مستقبلهم، فمصير غزة يرسم في واشنطن وتل أبيب وربما في عواصم أخرى، بينما يقصى أهلها عمدًا من موقعهم الطبيعي بوصفهم أصحاب الحق والأرض والقرار، وكأن التاريخ يمكن أن يعاد كتابته دون حضورهم وبقرار خارجي يطمس الهوية ويصادر الإرادة.
وبذلك يتحول نضال الشعب الفلسطيني، الذي هو في جوهره معركة من أجل الحرية والكرامة والسيادة، إلى مجرد ورقة مساومة على طاولة المفاوضات الإقليمية والدولية، تستخدم عند الحاجة وتهمش عند الاستغناء، إن مثل هذا الإقصاء يبطل أي عملية سياسية، ويفرغها من قيمتها الأخلاقية والإنسانية، ويحولها إلى مسرحية من طرف واحد، تكتب فصولها خارج فلسطين، بينما يدفع الفلسطينيون وحدهم ثمنها دمًا وتشريدًا وحصارًا.
غير أن الموقف المصري جاء حاسمًا وواضحًا في مواجهة مثل هذه الطروحات، مؤكدًا أن لا سلام ولا استقرار دون الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وفي مقدمتها إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو وعاصمتها القدس الشرقية، لقد عبرت القيادة المصرية، بحكمتها ورؤيتها الاستراتيجية، عن رفضها القاطع لأي تسوية تتجاوز الإرادة الفلسطينية أو تنتقص من سيادتها، لتؤكد أن مصر، بما تمثله من ثقل تاريخي وسياسي وحضاري، ما زالت الحصن الأمين للقضية الفلسطينية، والضامن الحقيقي لأن تكون الكلمة الفصل بيد أصحابها الشرعيين.
وتعمل هذه الخطة المضللة على تسويق خطاب مفاده أن الوصاية الدولية والقسرية يمكن أن تنتج سلامًا عادلًا؛ لكن هذه المغالطة لا تخفي سوى محاولة لإعادة إنتاج مشروع الاحتلال بصياغة جديدة، فهي تسعى إلى تفكيك مؤسساته وشرعنة الهيمنة عبر وسائل ناعمة وغطاء دبلوماسي وقانوني مزيف، والنتيجة الوحيدة المتوقعة هي إجبار الفلسطينيين على مأزق اختياري صعب، الموت أو الاستسلام بدون أي مكاسب خاصة الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
ويعد قبول هذه الخطة يعني العودة إلى منطق الوصاية الدولية، حيث تدار الأوطان من الخارج وتنهب مقدراتها ويقصى أصحاب الأرض عن حقهم في السيادة والقرار، وهو منطق لا يختلف عن أنماط الاستعمار القديم، سوى أنه يقدم اليوم في ثوب جديد، يتزين بشعارات السلام والازدهار بينما يخفي في باطنه تكريسًا للاحتلال وتجريدًا للفلسطينيين من أبسط حقوقهم الوطنية والإنسانية، فهي صياغة محدثة لمشروع استعماري يسعى لإعادة إنتاج السيطرة بوسائل ناعمة وخطاب مموه وغطاء سياسي ودبلوماسي مضلل، بحيث يسلب الحق من أصحابه تحت لافتة الشرعية الدولية، وتفرض الهيمنة باسم الاستقرار، ويختزل النضال الفلسطيني إلى قضية إنسانية إغاثية بدل أن يبقى قضية تحرر وحرية.
وجاء الموقف المصري واضحًا وحاسمًا، رافضًا أي وصاية على الشعب الفلسطيني، أو محاولات إعادة إنتاج الاستعمار في ثوب جديد، فمصر، بثقلها القومي ومكانتها الإقليمية والتاريخية، تؤكد أن الأمن القومي العربي لا يتجزأ، وأن أي تسوية لا تنطلق من الاعتراف بالحقوق الفلسطينية المشروعة مصيرها الفشل، لقد كانت القيادة المصرية، وما تزال، صخرة صلبة في وجه هذه الطروحات، تدافع عن مبدأ السيادة الوطنية وترفض أي منطق يقصي الشعوب عن حقها في تقرير مصيرها وصون كرامتها.
وفي مواجهة هذه الرؤية المختلة، برز الموقف المصري كصمام أمان للقضية الفلسطينية، وصوت الحكمة والعقلانية في زمن الارتباك والتجاذبات، فمصر، بما تملكه من ثقل تاريخي وجغرافي وسياسي وحضاري، رفضت منطق التهميش والإملاءات، وأكدت بوضوح أن أي تسوية عادلة لا يمكن أن تمر إلا عبر الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
وقد تحركت مصر دبلوماسيًا وإقليميًا ودوليًا وحثت القيادة السياسية الدول على الإسراع بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، باعتبار هذا الأمر خطوة ضرورية لتصحيح الخلل التاريخي، وإعادة التوازن للمعادلة السياسية، وهكذا ظلت مصر، بقيادتها الرشيدة ورؤيتها الاستراتيجية، قوة دافعة حقيقية لصوت الحق الفلسطيني، وضمانة لأن تبقى البوصلة موجهة نحو الحل العادل والشامل وأعادة ضبط ميزان القضية، وردها إلى مسارها الصحيح، مسار الحقوق والعدالة، بعيدًا عن محاولات الالتفاف أو تصفية القضية أوالشروط والإملاءات والوصاية، وستظل مصر، بقيادتها الرشيدة وشعبها الواعي، الدرع الحامي للقضية الفلسطينية، والصوت الصادق للكرامة العربية، والمرجع الذي يوفق بين الواقعية السياسية والثوابت التاريخية، وهو موقف يعبر عن التزام قومي أصيل، وإدراك عميق بأن استقرار فلسطين جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري والعربي.
____
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر

