مبادرة أمريكية جديدة لاحتواء الأوضاع في قطاع غزة، في لحظة مفصلية، تجلت في مقترح الرئيس دونالد ترامب، والذي حمل العديد من الملامح الإيجابية، ربما أبرزها استلهام جزء كبير من الخطة العربية، التي أعلنتها القمة الطارئة التي عقدت بمارس الماضي بالقاهرة، بالإضافة إلى تماهيها مع العديد من الرؤى التي سبق وأن تبنتها القوى الإقليمية، وعلى رأسها مصر، سواء فيما يتعلق بضرورة الوقف الفوري لأعمال الحرب، ومرور المساعدات الإنسانية، ناهيك عن التركيز على الجانب التنموي، فيما يصب في مصلحة المواطن الذي يقطن القطاع، وهي أمور كلها تمثل أحد أهم ثمار دبلوماسية التوافق التي انتهجتها الدولة المصرية منذ بدء العدوان على غزة، قبل عامين.
إلا أن الجدل يثور حول مسألة تشكيل اللجنة الدولية، والتي أسماها الرئيس ترامب “مجلس السلام”، وتحت رئاسته، لإدارة شؤون القطاع، والتي يعمل تحت مظلتها فلسطينيين غير مسيسين، وهو ما يحمل في طياته تساؤلات عدة، منها ما يدور حول ما إذا كانت تلك اللجنة امتدادا لمقترح واشنطن السابق، حول تحويل غزة إلى “ريفيرا” الشرق الأوسط، عبر سيطرة أمريكية على الأرض، وتحويلها إلى مشروع تنموي، مما يجردها من حقيقة كونها جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية، وبالتالي تقويض الشرعية الدولية، عبر وأد الدولة المنشودة، قبل ميلادها، وهو المقترح الذي سبق وأن رفضته القوى الإقليمية بصوت واحد، خاصة وأنه اعتمد في الأساس على رؤية قائمة على تهجير المواطنين، وتفريغ الأرض من سكانها.
مقترح ترامب الأخير لا يحمل في واقع الأمر تهجيرا، بل أنه أكد على عدم إجبار السكان على الرحيل، وهو ما يمثل انتصارا مهما للقضية وأهلها والقوى المناصرة لها، ولكن تبقى اللجنة ورئاسته لها، محلا كبيرا للظنون، ناهيك عن اختياره لشخصية توني بلير في عضوية المجلس، والذي سبق وأن كان شريكا للولايات المتحدة في غزة العراق في عام 2003.
المقاربة بين المشهد في غزة والعراق، ربما تفرضها الظروف، في لحظة ضبابية، لا يبدو فيها المستقبل واضحا، فالخطة في مجملها إيجابية، تتماهى مع توجهات المنطقة ذات الطبيعة التنموية، إلا أن الحديث عن لجنة إدارة دولية، وبرئاسة الرئيس الأمريكي، يعيد إلى الأذهان أنظمة الوصاية أو الانتداب، التي سادت الحقبة الاستعمارية، ولكن باستخدام وسائل أكثر نعومة، بعيدا عن القوة العسكرية الصلبة، والتي لم يخلو منها القطاع في واقع الأمر، في إطار العدوان المتواصل منذ عامين، إلا أن الاختلاف في مشهد غزة، يبدو وكأنه “وصاية” بديلة للغزو، أو بالأحرى بعدما فشلت القوة القائمة بالاحتلال عن تحقيق أهدافها.
فلو نظرنا إلى الهدف الرئيسي والمعلن من العمليات الإسرائيلية في غزة، نجد أنها القضاء على الميليشيات، وهو ما لم تتمكن من تحقيقه قوات الاحتلال منذ عامين كاملين، فتحولت الأمور إلى دعوة للفصائل بأن تبتعد عن المشهد، مصحوبة بتهديدات صريحة بـ”الجحيم”، وفي المقابل يصبح القطاع تحت إدارة دولية بالتراضي، برئاسة أمريكية صريحة، تتجلى في شخص الرئيس.
الشكوك التي يمكن أن تدور، وهي غير مؤكدة تماما، حول إمكانية تطبيق نهج “الغزو الناعم” مع غزة، لا تتجلى فقط في وجود توني بلير، كأحد أعضاء اللجنة المشار إليها، وهو شريك قديم للولايات المتحدة، وإنما أيضا في رؤية الرئيس ترامب نفسه، والذي لا يميل إلى استخدام القوة العسكرية، بل كان حريصا منذ حقبته الأولى على تخفيف الوجود العسكري الأمريكي خارج الحدود، وإنما بات يميل إلى الاستحواذ والسيطرة بصيغ أكثر نعومة، منها استحداث منهج “البيع والشراء”، في إطار العلاقات الدولية، على غرار دعوته التي استبق بها ولايته الثانية بضم كندا، ثم الحديث عن شراء جزيرة جرينلاند الخاضعة تحت سيطرة الدنمارك.
السطور السابقة لا تقلل من إيجابية الخطة، حال توفر إرادة سياسية حقيقية للحل وإنهاء الأزمة، وهو ما يتطلب خطوات أمريكية عملية، من شأنها إعادة الثقة في نزاهة الدور الذي تلعبه واشنطن في اللحظة الراهنة، وأولها التأكيد على الالتزام بالشرعية الدولية، كأساس للحل، وأن الانتصار لحل الدولتين هو السبيل الوحيد للاستقرار في الشرق الأوسط، مع الضغط على حكومة بنيامين نتنياهو بوقف إطلاق النار فورا، وهي العوامل التي إن توفرت في الخطاب الأمريكي في اللحظة الراهنة، ستكون هناك ثقة إقليمية أوسع وأكبر للخطة المطروحة من قبل الرئيس ترامب.
على الجانب الآخر، تبقى هناك مسؤولية فلسطينية، ترتبط في أحد مساراتها بالسلطة، والتي تبقى مطالبة بمزيد من الإصلاحات، حتى لا تمنح ذرائع جديدة للمعسكر الداعم للاحتلال للتشكيك في قدرتها على قيادة الدولة المنشودة، بينما تقع في مسار آخر على عاتق الفصائل، والتي ينبغي أن تضع نصب أعينها المصلحة الوطنية، بعيدا عن المصالح الأخرى الضيقة، المتمثلة في الرغبة في الهيمنة والسيطرة، في حين تبقى المصالحة ووحدة الصف أساسا لا غنى عنه في المرحلة الحالية، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن أكبر انتكاسات القضية منذ 2007، كانت نتيجة مباشرة للانقسام، والذي خدم مصالح الاحتلال.
وهنا يمكننا القول بأن خطة الرئيس ترامب تحمل إيجابيات لا يمكن إنكارها، ولكنها تثير الظنون، “وليس كل الظن إثم”، في ضوء سوابق تاريخية أمريكية لم تفصل يومًا بين التسوية والهيمنة، على غرار المشهد في العراق، وإن كان الأسلوب مختلفا، أو حتى سوابق “ترامبية”، على غرار مقترح “الريفيرا”، أو من قبل حديثه عن كندا وجزيرة جرينلاند، خاصة عندما نصب نفسه رئيسا بـ”الوكالة” للقطاع، ناهيك عن غياب الحديث الأمريكي عن حل الدولتين، أو الانتصار للشرعية الدولية، وهي أمور تبقى بمثابة ضمانات للمصداقية، في ضوء مخاوف كبيرة تشغل الرأي العام الإقليمي.

