يعيش العالم اليوم في ظل تحولات متسارعة على المستويات التقنية والاقتصادية والاجتماعية، تحولات امتدت لتعيد صياغة ملامح سوق العمل بصورة جذرية، فقد باتت المهن في حالة تطور مستمر، تتبدل وظائفها، وتتغير متطلباتها، وتتشابك مع أدوات وتقنيات جديدة تفرَض بوتيرة غير مسبوقة، وأمام هذا المشهد المتغير، وجد الأفراد والمجتمعات أنفسهم أمام ضرورة ملحة لإعادة النظر في طبيعة المهارات والجدارات التي يحتاج إليها الإنسان؛ حتى يثبت حضوره في بيئة عمل متحولة، ويصنع أثره الإيجابي، ويحافظ على مكانته وسط منافسة عالمية محتدمة تتسابق فيها العقول قبل الموارد.
وفي ظل هذه التطورات ظهرت فكرة الجدارات المتجددة باعتبارها المدخل الأساسي لولوج المستقبل، والركيزة الأساسية في تشكيل مهن الغد، فالجدارات أصبحت منظومة متكاملة تتداخل فيها المعرفة النظرية مع الكفاءة العملية، وتندمج فيها القدرة على التكيف مع الإبداع في مواجهة المستجدات تشمل التفكير النقدي والإبداعي، والقدرة على التكيف مع التغيير، ومهارات التواصل والعمل التعاوني، إلى جانب الإلمام الرقمي والوعي بالقيم الإنسانية والأخلاقية، ويضمن امتلاك هذه الجدارات للإنسان البقاء في سوق العمل والتميز والقدرة على الإسهام في النهضة الاقتصادية والاجتماعية، وتحويل التحديات إلى فرص للنمو والابتكار، وهكذا تتحول الجدارات المتجددة إلى لغة المستقبل التي تعبر عن جوهر التنمية البشرية، وتحدد موقع الأمم في خريطة التنافس العالمي.
وتمثل الجدارات المتجددة اليوم بوصلةً أساسية ترشد الأفراد والمؤسسات على السواء؛ فهي عامل تمكين فردي، وركيزة رئيسية لبناء مجتمعات أكثر قدرة على التكيف مع موجات التغيير المتلاحقة، فلا يمكن لأي مؤسسة أو دولة أن تحقق تنمية مستدامة حقيقية ما لم يكن لديها أفراد يمتلكون القدرة على التجدد المستمر، والإبداع في مواجهة المجهول، وتوظيف مهاراتهم في خدمة الصالح العام وتحويل التحديات إلى فرص.
وتعد مهن المستقبل انعكاسًا لتحولات عميقة في بنية الإنسان ذاته، وفي وعيه، وطريقة تفكيره، وقدرته على النقد والإبداع في حل المشكلات، ومسؤوليته في التعامل مع الموارد فالجدارات المطلوبة تشمل القدرات العقلية من تفكير نقدي وتحليل منهجي وحل ابتكاري للمشكلات، والمهارات العاطفية والاجتماعية من ذكاء عاطفي وتواصل فعال وعمل جماعي، والجدارات الأخلاقية والقيمية التي تضبط استخدام المعرفة والتقنية بما يخدم الإنسان والمجتمع، وبذلك تتشكل هوية الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي والتحولات الرقمية، ليصبح أكثر وعيًا ومرونة ومسؤولية، وقادرًا على الإسهام في صياغة مستقبل أكثر عدلًا واستدامة وابتكارًا.
ويأتي في مقدمة الجدارات المتجددة التعلم المستمر حيث أصبح ضرورة أوجبت على الفرد أن يطور ملكة التعلم الذاتي، وأن يمتلك القدرة على استيعاب المعارف العابرة للتخصصات، ليصبح أكثر قدرة على إعادة تشكيل ذاته وفقًا لمقتضيات المرحلة، فالتعلم تحول إلى أسلوب حياة يرافق الإنسان في كل لحظة، ويعيد صياغة كفاءته المهنية والإنسانية على حد سواء.
كما تحتل المهارات التقنية مكانة جوهرية في مهن المستقبل، لكنها لم تعد كافية بمفردها فالقدرة على التعامل مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة، وفهم نظم الأمن السيبراني، وإدارة التحولات الرقمية، كلها باتت شروطًا أساسية لدخول سوق العمل المعاصر غير أن هذه المهارات التقنية تظل بلا روح إن لم يرافقها وعي إنساني عميق قادر على توجيهها لخدمة الخير العام، ولتوظيفها في بناء الإنسان وتنمية المجتمع.
ويزداد المستقبل تعقيدًا بفعل التنقل المستمر بين مجالات عمل متعددة، وإعادة تشكيل المسارات المهنية بوتيرة غير مسبوقة، ومن ثم فإن القدرة على التكيف، وإدارة التغيير، واستيعاب المجهول، والتعامل مع المواقف غير المتوقعة، صارت من أهم الجدارات التي تضمن للإنسان موقعًا فاعلًا في عالم مليء بالمفاجآت، وهذه القدرات تمنح الفرد قوة النجاة في بيئة تنافسية، وتمكنه من الإسهام في صياغة واقع أكثر مرونة وعدالة واستدامة.
وتعد المهارات الناعمة من بين الجدارات المتجددة التي يزداد حضورها، وعلى رأسها التواصل الفعال، والعمل الجماعي، وإدارة النزاعات، والذكاء العاطفي، ففي ظل الثورة التقنية المتسارعة، يتضاعف احتياج الإنسان إلى استعادة بعده الإنساني في العلاقات، فلا قيمة لأي إنجاز تقني إذا لم ينعكس في صورة تفاهم أعمق بين البشر، وتعاون أوثق بين الثقافات، وتقدير متبادل للآخر فالمهارات الناعمة تحولت إلى شرط رئيس للقيادة، والإبداع، وصناعة القرار في بيئات مهنية تتسم بالتنوّع والاختلاف.
كما تضع الجدارات الأخلاقية الإنسان أمام مسؤوليته في التعامل مع ما بين يديه من معارف وتقنيات فالعصر الرقمي يفتح آفاقًا واسعة للابتكار، لكنه يثير في الوقت ذاته تحديات كبرى تتعلق بالخصوصية، والعدالة، وأمن المجتمعات، واستدامة الموارد وهنا يصبح على الإنسان أن يمتلك بوصلة أخلاقية ترشده في اختياراته، وتجعله قادرًا على التمييز بين ما هو ممكن وما هو واجب، وبين ما يخدم المستقبل وما يهدده، فالجدارات الأخلاقية هي الضامن الحقيقي لاستمرار إنسانية الإنسان في مواجهة الطوفان الرقمي وتحولات الذكاء الاصطناعي، فالتقنيات مهما بلغت من تطور تكتسب معناها حين تتجسد في سلوك إنساني راقٍ، وإبداع مسؤول، وممارسات مهنية تراعي القيم العامة والمصلحة المشتركة، وبذلك يتحقق التوازن بين التقدم المادي والارتقاء الأخلاقي.
وتتجلي القدرة على التفكير النقدي وحل المشكلات بوصفها من أهم ملامح الجدارات المتجددة فالمستقبل مرشح لأن يشهد أزمات معقدة ومتداخلة تتجاوز الحلول التقليدية، وتحتاج إلى عقول مبتكرة قادرة على تفكيك المشكلات من جذورها، وصياغة حلول عملية وواقعية تجمع بين الرؤية الاستراتيجية، والجرأة في التنفيذ، والإبداع في استثمار الموارد المتاحة، وتعني هذه القدرة بناء منظومة ذهنية قادرة على تحليل السياقات المتغيرة، واستشراف البدائل، وتحويل التحديات إلى فرص تنموية حقيقية.
وفي هذا الإطار، تكتسب الجدارات البيئية بعدًا متناميًا في مهن المستقبل، حيث باتت الاستدامة البيئية والتحول نحو الاقتصاد الأخضر من أولويات الأجندات العالمية، حيث أصبح النجاح المهني يقاس بقدرة الفرد على تحقيق المكاسب ومدى إسهامه في حماية البيئة، وترشيد استخدام الموارد، وبناء أنماط إنتاج واستهلاك أكثر عدالة ومسؤولية، وهكذا تتجاوز الجدارات البيئية مجرد الوعي النظري بالقضايا المناخية إلى ترجمتها في سلوكيات وممارسات عملية، تجعل الإنسان شريكًا فاعلًا في صياغة مستقبل مستدام، وتؤهله ليكون جزءًا من الحل لا جزءًا من المشكلة.
ونجد عند التأمل في هذه الجدارات المتنوعة والمتجددة، أنها جميعًا تلتقي عند نقطة محورية هي الإنسان بوصفه قيمة ومعنى؛ فالتقنية مهما بلغت من تطور تبقى أدوات ووسائل، بينما الغاية الحقيقية هي الوعي الإنساني وأخلاقه وقدرته على الإبداع والتوجيه، ومن ثم تمثل مهن المستقبل تجسيدًا لقدرة الإنسان على إعادة تعريف ذاته، وتوسيع مداركه، وصياغة عالم جديد أكثر نضجًا في فهم دوره ومسؤوليته عن ذاته ومحيطه، وهكذا تضع هذه الجدارات الإنسان في موقع الفاعل والمبدع، وتدعوه ليكون شريكًا في صياغة الغد؛ فالمستقبل ملك لأولئك الذين يدركون أن جداراتهم هي رأس مالهم الحقيقي، وأن الاستثمار في ذواتهم هو أعظم استثمار لأنفسهم ولمجتمعاتهم.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر

