في الـ22 من سبتمبر (أيلول) 2025، اجتمع العالم في مؤتمر نيويورك بهيئة الأمم المتحدة للمرة الثانية بدعوة سعودية – فرنسية لإقرار الاعتراف بدولة فلسطين، وإقرار السلام العادل وفق ما نصت عليه المبادرة العربية للسلام التي تقضي بإقرار حل الدولتين كطريق أمثل لتحقيق السلام العادل في إقليم الشرق الأوسط.
يأتي ذلك بعد إطلاق المملكة العربية السعودية، في 27 سبتمبر 2024، مؤتمر حل الدولتين بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي، والذي أثمر عن حشد المجتمع الدولي في يوليو (تموز) 2025 ليعقد المؤتمر الدولي الأول لحل الدولتين، استجابةً للمبادرة السعودية – الفرنسية.
وكانت السعودية، وبلسان وزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان، قد أعلنت خلال الاجتماع الوزاري بشأن القضية الفلسطينية وجهود السلام، على هامش أعمال الأسبوع الرفيع المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ79 بمدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية، وباسم الدول العربية والإسلامية والشركاء الأوروبيين، عن إطلاق «التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين».
وفي كلمته، شدد بن فرحان على أن الحرب على غزة قد تسببت في حدوث كارثة إنسانية، إلى جانب الانتهاكات الخطيرة التي تقوم بها قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، وتهديدها الدائم للمسجد الأقصى الشريف والمقدسات الدينية، تكريساً لسياسة الاحتلال والتطرف العنيف، مشيراً إلى أن الدفاع عن النفس لا يمكن أن يبرر قتل عشرات الآلاف من المدنيين وممارسة التدمير الممنهج، والتهجير القسري، واستخدام التجويع أداةً للحرب، والتحريض والتجرد من الإنسانية، مطالباً بالوقف الفوري للحرب القائمة، وجميع الانتهاكات المخالفة للقانون الدولي، ومحاسبة جميع معرقلي مسار السلام، مؤكداً أن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة حقٌ أصيل وأساس للسلام، داعياً المجتمع الدولي إلى التحلي بالشجاعة والانضمام إلى الإجماع الدولي المعترف بدولة فلسطين، ومختتماً كلمته بإعلان إطلاق «التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين».
كان ذلك ولا يزال رأي القيادة السعودية في إحلال السلام العادل في المنطقة، وبالتالي إنهاء حالة الصراع والبدء ببناء شرق أوسط جديد يقوم على زيادة معدلات التنمية في كافة أرجاء الإقليم من دون استثناء، مما يحقق النماء والازدهار للجميع، وهي تنمية تعتمد على قيم الشراكة المتوازنة بما يخدم العالم ويزيد من نموه أيضاً.
على أن هذه الرؤيا والتي تقودها السعودية، وأبان عن ملامحها ولي العهد السعودي رئيس مجلس الوزراء في مؤتمر الاستثمار عام 2018، لم ترق لحكومة إسرائيل المتطرفة، التي تهدف إلى تكريس مفهوم الهيمنة والاستحواذ بغية تحقيق بناء مشروعها الجيوسياسي الجديد المتمثل في دولة «إسرائيل الكبرى»، في منحى استعماري جديد يعيد تشكيل خريطة الشرق الأوسط وفق ما صرح به المبعوث الأميركي توم برّاك قائلاً: «إنهم لم يعودوا يعترفون بحدود سايكس بيكو، وإنهم سيذهبون إلى حيث ما يريدون ومتى يريدون لحماية أمنهم القومي». وفي ذلك إشارة للحظة الاستعمارية الأولى، وكأنني بهم يريدون إعادة تقسيم الخريطة من جديد وفق رؤيتهم، وكأن المنطقة خالية من أي أحد.
أشير إلى أن تصورهم هذا ليس بجديد، حيث كان قد نظّر له شيمون بيريز في كتابه «الشرق الأوسط الجديد»، والذي كشف عن مخطط لحقبة جديدة في الإقليم تكون فيه إسرائيل دولة مركزية بحكم تفوقها التقني وتطورها المدني في مقابل ضعف الدول العربية، وتصور أن توقيع مذكرة سلام مع منظمة التحرير الفلسطينية سيفتح له الباب للوصول إلى باقي الدول العربية.
وحقاً كان يمكن أن يتحقق مراده لو أن إسرائيل أخلصت في إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، وعمل اليسار الإسرائيلي الأقل تشدداً على كبح جماح اليمين واليمين الإسرائيلي الأكثر تشدداً الذين أشار إليهم بوضوح في كتابه، ولأمكن تحقيق السلام العادل وإقامة حل الدولتين وفق طرح المبادرة العربية، وهو ما كان سينهي حالة الصراع الوجداني تزامناً مع انتهاء حالة الصراع السياسي.
لكن الغرور الإسرائيلي منع ذلك، حيث تصوروا أن العرب أمة مجزأة، وهو ما كرّس في ذهنهم أن قضية فلسطين لم تعد مركزية في ذهن العرب، وأن ملامح الشرق الأوسط الجديد بقيادتهم آخذة في التشكل وبشكل سريع.
كان ذلك تصور اليمين الإسرائيلي وإيمانهم المطلق، وهو تصور تشكل في الذهن السياسي الغربي، كما قادته الحكومة الأميركية بجهل منها لكوامن البنية النفسية للعرب والمسلمين إجمالاً. ولا أكون مبالغاً إنْ قلت إنّ الذهن السياسي السعودي هو من استمر مدركاً لمركزية القضية الفلسطينية في الوجدان العربي والإسلامي، ولذلك جعل منها محوراً رئيساً في المفاوضات غير الرسمية التي جرت مع الإدارة الأميركية قبل أن يتفجر بركان غزة الذي غيّر موازين المعادلة جراء غرور اليمين الإسرائيلي.
هذا الغرور والتوحش تحوّلا إلى نقمة عليهم، فالدماء البريئة تطايرت في السماء لتنبئ الشعوب الغربية بحقيقة ما يُرتكب في غزة من مجازر بشرية بحجة الانتقام والدفاع عن إسرائيل، فكان أن خرجت الشعوب الأوروبية والأميركية منددة بالجرائم المتوحشة التي ترتكبها إسرائيل في حق شعب أعزل، وهو تفاعل لم يكن له وجود من قبل على الصعيد الشعبي الغربي، فتلك أولى نتائج الشرق الأوسط الجديد، ولكن ليس وفق رؤية بيريز، وإنما وفق رؤية الطفل والمرأة والشيخ العجوز في غزة.
لقد رسمت أحداث غزة ملامح شرق أوسط جديد، ولكن بنكهة عربية وليست إسرائيلية، حيث خرجت حالة الصراع من حالتها السياسية إلى حالتها المجتمعية، وبات الشارع الغربي غاضباً من كل التوحش الصهيوني الذي أدى إلى مقتل عشرات الألوف من المدنيين العزّل ممن لا حول لهم ولا قوة، أطفالاً وشيوخاً، نساء ورجالاً، وأيقظ الدم المسكوب ظلماً في فلسطين نفوس العالم، حتى أولئك المؤيدين لإسرائيل من إعلاميين وغيرهم باتوا اليوم في صف آخر، وأصبحت إسرائيل وشعبها في عزلة كبيرة لم يسبق لها مثيل.
في جانب آخر، فقد بدأت كرة الثلج في التشكل، ولا أدل على ذلك من قيام دولة جنوب أفريقيا برفع دعوى قضائية في محكمة العدل الدولية ضد دولة إسرائيل بتهمة ارتكاب جرائم إبادة بحق الشعب الفلسطيني وفق القانون الدولي، والتي ابتدأت عجلتها بالأمس القريب، وهو أمر غير مسبوق.
كما بدأ مشاهير الإعلاميين في الغرب في إثارة الاستفهام حول مفهوم «معاداة السامية»، والذي استخدمه الإسرائيليون سيفاً مسلطاً على رقاب كل من يخالفهم، وصار عديد من أولئك المشاهير يتحدثون بجرأة كبيرة ضد المشروع الإسرائيلي، وكانوا من قبل من المؤيدين والمدافعين، كما هو الحال مع بيرس مورغان وغيره.
إنها كرة الثلج التي أخذت في التعاظم حتى وصلت إلى هذا التسونامي في اعتراف دول العالم بدولة فلسطين مساء يوم الاثنين 22 سبتمبر 2025م، في المؤتمر الدولي الرفيع المستوى بالجمعية العامة للأمم المتحدة برئاسة سعودية – فرنسية؛ وهي كرة الثلج التي زادت من عزلة إسرائيل دولياً وإنسانياً؛ وهي كرة الثلج أيضاً التي تصنع وتشكل ملامح الشرق الأوسط الجديد وفق ما تريده السعودية ودول السلام العالمي، وليس وفق ما تريده إسرائيل بنزعاتها العدوانية.

