الأزمة الانتخابية في العراق: شرعية متنازع عليها
خلفية الأزمة
شكلت الانتخابات في العراق نقطة ارتكاز لشرعية النظام السياسي الجديد منذ قرابة 20 عاما، لكنها مع مرور الوقت تحولت إلى موضوع جدل يتجاوز صناديق الاقتراع ليصل إلى جوهر الدولة نفسها. الإطار القانوني الذي رسمته الدساتير المؤقتة والدستور الدائم عام 2005 منح العملية الانتخابية طابعًا إلزاميًا لتداول السلطة، غير أن الممارسة العملية أظهرت أن النتائج لم تعد تعكس إرادة الناخبين بقدر ما تكرّس معادلات المحاصصة.
فجوة الدولة والمجتمع
هذا الواقع أدى إلى فجوة متنامية بين الدولة والمجتمع. بينما تتحدث النصوص الدستورية عن سيادة الشعب، تبيّن بيانات رقابية مستقلة أن نسب المشاركة تراجعت بشكل مستمر منذ 2005، لتصل في بعض المناطق إلى أقل من 20%، وهو ما يعكس انهيار الثقة بجدوى الاقتراع. ومع كل دورة انتخابية، تتكرر المعضلة نفسها: خطاب سياسي يَعِد بالتغيير، وصناديق تصب في النتيجة ذاتها، وحكومات تُبنى على أساس التوازنات وليس البرامج.
تشخيص الأزمة
جاءت خطبة التيار الوطني الشيعي من الكوفة على لسان السيد كاظم الحسيني لتضع الإصبع على جوهر الأزمة. فقد قال بوضوح إن "الانتخابات في العراق ليست ديمقراطية وإنما هي تصوير شكلي للديمقراطية، تنتج حكم نفس الأحزاب ونفس القادة، من الشيعة والسنة والأكراد". هذا الطرح، ووفق مقاربات سياسية حديثة، يعرّي البنية العميقة للنظام الذي يقوم على إعادة تدوير النخب نفسها، وهو ما يجعل العملية الانتخابية أقرب إلى طقس شكلي يمنح الغطاء القانوني للسلطة أكثر مما يعكس إرادة المواطنين.
نظام انتخابي متجذّر
الحسيني لم يتوقف عند هذا التشخيص، بل أضاف أن "أحزاب وشخصيات حجزت منصبها سلفاً في مفاصل الحكومة القيادية، وزعماء الإطار وزعماء السنة وزعماء الأكراد، إخوان على سررٍ متقابلين". هنا، يؤكد متخصصون في النظم الانتخابية أن توزيع المناصب قبل إعلان النتائج بات جزءًا من أعراف السياسة العراقية، ما يجعل التصويت مجرد إجراء لإضفاء الشرعية على اتفاقات مغلقة مسبقًا.
آليات الحفاظ على السلطة
كما لفت الحسيني إلى أن "النهيق الطائفي الذي يتصاعد كلما قربت الانتخابات، هو لتحشيد الناس من أجل المشاركة في الانتخابات لإسباغ شرعية على وجودهم في السلطة". هذا التوصيف يجد صداه في تقارير ميدانية أظهرت أن الخطاب الطائفي يرتفع دائمًا مع الحملات الانتخابية، لكنه يختفي سريعًا بعد النتائج لتحل محله صفقات المصالحة وتقاسم المناصب. وبحسب دراسات بحثية مستقلة، فإن هذه الآلية صُممت للحفاظ على نسب مشاركة مقبولة تكفي لإبقاء النظام قائمًا، دون الالتزام ببرامج إصلاحية حقيقية.
تحديات النظام
أما التحذير الأكثر صراحة فقد جاء عندما أكد الحسيني أن "قائمة غريبة عن خلطة العطار التي أسسها بريمر" حتى لو فازت، فلن يُسمح لها بتشكيل حكومة. هذا الكلام، ووفق قراءات قانونية، يسلط الضوء على خلل في النظام الدستوري نفسه، حيث تمنع آليات تشكيل الحكومة أي قوة جديدة من كسر معادلة المحاصصة، وتبقي القرار النهائي بيد القوى التقليدية.
مقاطعة الانتخابات
ضمن هذه الخلفية، جاء قرار مقتدى الصدر بمقاطعة الانتخابات المقبلة ليشكل امتدادًا عمليًا لهذا التشخيص. فالصدر، الذي اعتاد أن يصف خصومه بـ"الفاسدين" وشبّه النظام القائم بـ"حكومة بني العباس"، لم يكتف بالخطاب، بل انسحب من العملية الانتخابية برمتها. وبحسب مراقبين سياسيين، فإن هذه الخطوة ليست مجرد مناورة انتخابية، بل إعلان عن نزع الغطاء الشعبي من منظومة يعتبرها مغلقة وعاجزة عن الإصلاح الذاتي.
ردود الأفعال
رد القوى الأخرى كان سريعًا، إذ شنت الجيوش الإلكترونية التابعة للأحزاب الكبرى حملة منظمة ضد التيار الوطني الشيعي، متهمة إياه بزعزعة "الحاكمية الشيعية". ويفسر خبراء في الإعلام السياسي هذا السلوك باعتباره انعكاسًا لقلق عميق من أن تتحول مقاطعة الصدر إلى سابقة تلهم قوى اجتماعية أوسع للانسحاب من لعبة انتخابية باتت فاقدة للثقة.
مستقبل النظام السياسي
في النهاية، يتضح أن العراق يواجه أزمة مزدوجة: أزمة شرعية انتخابية تتمثل في عزوف جمهور واسع عن المشاركة، وأزمة مؤسسية أعمق تكمن في نظام صُمم لإعادة إنتاج نفس القوى. وبين خطبة الكوفة التي كشفت طبيعة الأزمة، وقرار الصدر الذي جسّدها عمليًا، يصبح السؤال الأكبر هو قدرة النظام السياسي على البقاء من دون شرعية انتخابية حقيقية، لا سيما في ظل الضغوط الشعبية والإقليمية والدولية المتزايدة.

