إن خلق الفرص للناس من أساسيات رسالة البنك الدولي. وبصفتي نائب الرئيس لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفغانستان وباكستان، زرت مدناً مفعمة بحماس الشباب وبلدات ريفية تواجه حالة عميقة من عدم اليقين. لقد شاهدت صمود المجتمعات المحلية في مواجهة الأزمات، وتصميم الشباب والنساء ودعاة الإصلاح على رسم ملامح لمستقبل أفضل.
تمر المنطقة بنقطة تحول كبيرة، فالتغير الديمغرافي يُحدث تحولات جوهرية في المجتمعات. وفي بعض البلدان، تشهد التركيبة السكانية زيادة في فئة الشباب، مما يخلق ضغوطاً لتوفير الوظائف وتوسيع نطاق الفرص. وفي بلدان أخرى، نجد أن زيادة أعمار السكان تضع أنظمة المعاشات التقاعدية والرعاية الصحية على المحكّ، وهذه التحولات تحدث إلى جانب التطورات التكنولوجية السريعة، والضغوط البيئية، والهشاشة المستمرة في بعض الدول.
تحدد التكنولوجيا، لا سيما الذكاء الاصطناعي، بصورة جديدة كيفية تعلم الناس وعملهم وتواصلهم؛ فهي قد تساعد المعلمين على تصميم الدروس لتناسب كل طالب، والأطباء على التنبؤ بتفشي الأمراض والوقاية منها، والحكومات على توجيه الخدمات بدقة. ولكن من دون اتخاذ إجراءات حاسمة، قد تؤدي إلى اتساع أوجه عدم المساواة، لا سيما في الأماكن التي تظل فيها إمكانية الوصول إلى العالم الرقمي محدودة.
لم يعد تغير المناخ تهديداً بعيداً، بل أصبح واقعاً يومياً، لكنه يقدم أيضاً فرصة للاستثمار في المهارات الخضراء، ومشروعات الطاقة المتجددة، والبنية التحتية القادرة على الصمود، التي يمكن أن تخلق فرص عمل مع حماية الكوكب في الوقت نفسه.
لقد التقيت أشخاصاً بارزين في جميع أنحاء المنطقة، ممن يقودون بالفعل هذا التغيير ويعملون على تعزيز إمكانات المنطقة.
حتى يتسنى تعظيم الاستفادة من هذه الإمكانات، علينا الاستثمار في البشر بوصفهم أعظم ما نملكه من مقومات. هذا يعني تعزيز أنظمة التعليم لكي يكتسب كل طفل المهارات اللازمة للتعايش في عالم سريع التغير، فضلاً عن توسيع نطاق الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية الجيدة وبناء أنظمة قادرة على التكيف مع التحديات الجديدة، من الجوائح إلى الإجهاد الحراري، وهذا يتطلب إعادة النظر في كيفية إنفاق الموارد العامة وضمان وصولها إلى الأشخاص والمجتمعات الأكثر حاجة إليها.
إننا بحاجة أيضاً إلى إعداد المؤسسات كي تكون «ملائمة للمستقبل»، وقادرة على توقع التغيير، والاستجابة بسرعة، وخدمة جميع المواطنين. وفي البيئات الهشة والمتأثرة بالصراعات، يُعد ذلك الأمر شديد الإلحاح. في هذا السياق، يمكن للاستثمارات في التنمية البشرية أن تسهم في بناء أسس الاستقرار والسلام.
ستظل الخيارات التي نتخذها في السنوات القليلة القادمة ذات أثر يتردد صداه عبر الأجيال. ويمكننا اختيار التقاعس عن العمل، وإجراء تصحيحات جزئية على الأنظمة التي تعاني بالفعل من الضغوط، والسماح بتفاقم أوجه عدم المساواة، أو بدلاً من ذلك التحرك الآن من خلال الاستثمار في بناء مهارات البشر وتحسين صحتهم وتعزيز قدرتهم على الصمود، وتطبيق كل هذا على المؤسسات التي تدعمهم.
إن المسار الثاني ليس ممكناً فحسب، بل هو قيد التنفيذ بالفعل. وسيتطلب ذلك التزاماً وشراكات وتعاوناً واستعداداً للنظر إلى ما هو أبعد من الحلول قصيرة الأجل.
ستحتاج البلدان إلى سياسات للتنمية البشرية مُلائمة للمستقبل تستجيب للتحولات الديمغرافية والتغيرات التكنولوجية والسياقات الهشة. وهذا يعني زيادة فرص العمل للشباب والنساء، وتوسيع مظلة أنظمة رعاية الأطفال ورعاية المسنين، وإصلاح أنظمة المعاشات التقاعدية ولوائح العمل لدعم حياة عملية أطول. ويجب أن تدمج أنظمة التعليم والتدريب المهارات الرقمية ومهارات الذكاء الاصطناعي، وأن تراعي احتياجات سوق العمل، فضلاً عن توفير مسارات مرنة للتعلم مدى الحياة. ويمكن للمنصات الرقمية، إذا جرى تنظيمها بشكل جيد، أن تعمل على زيادة فرص العمل، وتقنين أوضاع أصحاب الأعمال الحرة، أضف إلى ذلك تعزيز أنظمة الضرائب والتأمينات الاجتماعية. علاوة على ذلك، ستزداد ضغوط الهجرة، مما يستلزم إقامة شراكات لبناء المهارات مع دول المقصد بهدف ضمان التنقل الآمن وتحقيق المنافع المشتركة. وقبل كل شيء، يجب على الدول التي تعاني من أوضاع الهشاشة الحفاظ على خدمات التعليم والرعاية الصحية وشبكات الأمان الأساسية، من أجل الحفاظ على رأس المال البشري بهدف تحقيق التعافي في المستقبل.
سيستلزم ذلك إصلاحات في مجال الحوكمة لجعل المؤسسات أكثر خضوعاً للمساءلة، وأكثر قدرة على التكيف، وأكثر استخداماً للبيانات الدقيقة؛ فضلاً عن أنظمة مالية عامة تعمل على زيادة الإيرادات وتخصص الموارد نحو استثمارات في البشر تتسم بالفاعلية من حيث التكلفة؛ بالإضافة إلى التنسيق بين الحكومات وجميع أصحاب المصلحة.
ستختلف الأولويات باختلاف السياقات، إذ يمكن للاقتصادات الغنية بالموارد التركيز على تحسين صحة كبار السن واعتماد التكنولوجيا؛ أما البلدان متوسطة الدخل فستركز على إعادة التوازن في الإنفاق وتعزيز الكفاءة؛ وستركز البلدان منخفضة الدخل والمتأثرة بالصراعات على الحفاظ على الخدمات الأساسية.
القاسم المشترك هو الاستثمار الجريء والمستدام في قدرات البشر، المدعوم بالابتكار الرقمي والسياسات الشاملة للجميع، لتحويل الاتجاهات الكبرى اليوم إلى فرص للأجيال القادمة.
إن مستقبل المنطقة لن يتحدد فقط من خلال مواردها الطبيعية أو موقعها الجيوسياسي، بل أيضاً من خلال كيفية تقديرها لشعوبها واستثمارها فيهم، فإذا تمكنَّا من تسخير القدرات الإبداعية وروح الصمود والطموح؛ وكلها مقومات متوفرة بصورة كبيرة، فإنه يمكننا بناءً مستقبل تتاح فيه لكل شخص فرصة العيش بكرامة وأمان وأمل.
* نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفغانستان وباكستان

