رحلة عبر العصور: تاريخ الانهيار المجتمعي
كتاب «لعنة العمالقة: تاريخ ومستقبل الانهيار المجتمعي» للأكاديمي الأسترالي لوك كيمب هو من النوع النادر من الكتب التي لا تقرأها فقط، بل تسكنك وتترك أثراً عميقاً في روحتك. يأخذنا كيمب في رحلة عبر خمسة آلاف عام من الطموح الإنساني وسقوطه، ليجعلنا نتلمس الخيط الخفي الذي ينسج كل حكايات الانهيار.
منطق الانهيار
يبادر «لعنة العمالقة» سريعاً إلى التأسيس لمنطق سيحكم سرده، وذلك بتمزيق وشاحٍ طالما تسترنا به، فيتخلى عن مصطلح «الحضارة» الذي يراه المؤلف مجرد دعاية مُذهّبة صاغها الحكّام لتبرير هيمنتهم. بدلاً من «الحضارة»، يقدم لنا مصطلحاً أكثر صدقاً وقسوة لوصف تلك الممالك والإمبراطوريات الضخمة: «العمالقة».
وقود الهيمنة
لكي يولد هؤلاء العمالقة، كانوا بحاجة إلى وقود خاص، ثلاثة أنواع من الوقود أشعلت محرك الهيمنة. الأول هو «ذهب الفقراء»: الحبوب، ذلك الفائض الذي يمكن رؤيته وتخزينه، وبالتالي، سرقته ونهبه. والثاني هو «بريق الموت»: الأسلحة الفتاكة، كالسيوف البرونزية، التي احتكرتها فئة قليلة لفرض سطوتها. أما الوقود الثالث، فهو الأكثر مكراً: «الأرض المسوّرة»، تلك الجغرافيا التي حاصرت البشر بين بحار وصحارٍ وجبال، فمنعتهم من الفرار من طغاة صاعدين، وحولتهم إلى رعايا في قفص.
لعنة اللامساواة
كل عملاق، مهما بلغ من بطش، يحمل في أحشائه بذور فنائه. هذه هي «اللعنة» التي يتحدث عنها عنوان الكتاب. إنها اللامساواة. ليست مجرد فجوة اقتصادية تُقاس بالأرقام، بل هي سرطانٌ ينهش روح المجتمع، ويفسد نسيجه الأخلاقي. يرى كيمب أن الجشع ليس طبيعة بشرية أصيلة، بل هو مرض يصيب قلة من النخب، أولئك الذين يجسدون «الثالوث المظلم» للنفس البشرية: النرجسية، والسيكوباتية، والميكيافيلية.
انهيار العالم الحديث
الانهيارات الماضية كانت إقليمية، وكان هناك دائماً مهرب، أرضٌ يمكن العودة إليها، وزراعة يمكن استئنافها. أما اليوم، فنحن لا نعيش في ممالك متناثرة، بل نسكن جميعاً في أحشاء «عملاق عالمي واحد مترابط»، نظام رأسمالي يلف الكوكب بشبكاته. والانهيار هذه المرة لن يكون إقليمياً أو جزئياً، بل سيكون، كما يحذر، شاملاً وكارثياً وسريعاً.
طريق الخلاص
على الرغم من تشاؤمه المعلن، لا يتركنا كيمب فريسة لليأس. الحل الذي يقترحه ليس سهلاً، لكنه يعيد الكرامة إلى الفكرة الإنسانية. إنه يدعو إلى «ديمقراطية حقيقية»، تدار عبر مجالس مواطنين وهيئات محلفين، وإلى كبح جماح الثروة المتوحشة بفرض ضرائب عليها. قد تبدو هذه الأحلام طوباوية، لكنه يذكرنا بأننا خضعنا لغسيل دماغ استمر خمسة آلاف عام، جعلنا «نتخيل نهاية العالم أسهل من تخيل نهاية الرأسمالية».
وصية أخيرة
في النهاية، يتركنا «لعنة العمالقة» مع وصية أخيرة، مباشرة وحميمية، تلخص فلسفته: «لا تكن وغداً». لا تكن ترساً في آلة الدمار. لا تعمل لدى من يصنعون أسلحتنا أو يسممون كوكبنا. قاوم علاقات الهيمنة، وشارك السلطة متى استطعت. إنها دعوة للتحدي، للوقوف بصلابة أخلاقية، حتى لو كانت الهزيمة محتملة. لأن المعركة الحقيقية، كما يهمس لنا لوك كيمب بين سطور كتابه البديع والموجع، ليست معركة من أجل الانتصار، بل من أجل أن نكون جديرين بالبقاء.

