أفرد الكاتب سمير عطا الله منذ أسبوعين مقالتين عن مدينة فاس التي نشأت فيها وترعرعت، وخلال زيارته الأخيرة لها، شعر الكاتب بأنه تعرف إلى أعماق المغرب أكثر من أي مرة أخرى، لأن للمدينة حقاً سحراً يكشف عن نفسه، تاركاً إياك تتنشق العبق التاريخي وصفاء الحياة المغربية… وهذا كلام صحيح. ومما أعطى للزيارة طابعاً خاصاً وجود المرحوم محمد بن عيسى معه، وهو الصديق الذي نفتقده كثيراً… فهو واحد ممن كان يعرف أزقة فاس جيداً، وكان يشرفني بمشاركاته في منتديات فاس التي كنت أنظمها، وكان دبلوماسياً محنكاً وفناناً محاوراً من الطراز الرفيع يمتلك أسلوباً يمزج الجدّ بالهزل، ويتقن بيداغوجيا الخطاب بما يثير اهتمام سامعيه من مختلف الأعمار والمستويات.
ونحن نتحدث عن مدينة فاس، حري بنا أن نتوقف عند أقدم جامعة في العالم، جامعة القرويين التي بنتها امرأة، وهي أم البنين فاطمة الفهرية عام 245هـ 859م. ولقد وجد المؤرخون في جدران هذه المؤسسة العظيمة، وفي كراسيها العلمية، وفي مرافقها العديدة الدالة، وفيما مر بها من رجال، وما شاهدته من أحداث، وما مر بها من ظروف وصروف، وجدوا في كل ذلك فصولاً تختصر ترجمة السيدة فاطمة وترسم الخطوط الكبرى لما يمكن أن يقال عنها… وقد قال ابن خلدون وهو يسجل مبادرة السيدة أم البنين قال: «فكأنما نبهت عزائم الملوك من بعدها»، وهناك عدد من أعلام الفكر الموسوي والمسيحي والإسلامي كان لعلماء فاس أثر في تكوينهم وظهورهم.
وقد كان التقدم العلمي بالنسبة للمغاربة وأهل فاس والمسلمين عموماً عبر العصور أمراً دينياً، سواء كان العلم يتصل بالدين أو بالمعارف الدنيوية التي لها غايات دينية، فالإسلام يفرض معرفة ويفسر الأهلة في القرآن على أساس الفلك، ولذلك درس المسلمون الفيزياء والكيمياء في الجامعة لخدمة الإنسان عقلياً ونفسياً وتربوياً اتباعاً لتعاليم الدين، ولذلك تخصصوا في علوم الرياضيات واهتموا بالحساب وطوروا الأرقام ونظموها. ونذكر هنا بإعجاب تقدم الرياضيات على يد تميم بن طريف مخترع الأرقام على الزوايا التي ذاعت في فاس وقرطبة، واعتبرها الإفرنج المعجزة العربية التي قدمت العلم، الذي نقل هذه الأرقام إلى أوروبا هو البابا سيلفستر الذي درس في القرويين.
كما كان لكراسي جامعة القرويين دور كبير في نشر العلم عبر القرون. وفي هذا الباب وتنافساً مع المدرسة المستنصرية ببغداد، نرى جامعة القرويين تعج بمدارس تحاكي هذه الأحياء الجامعية التي يعتبرها العصر الحديث من حسناته، فبعد مدرسة الحلفاويين كانت مدرسة فاس الجديدة، ثم مدرسة الصهريج، ومدرسة العطارين، ومدرسة الوادي، ومدرسة الخصة، ومدرسة أبي عنان، وكل هذه المدارس تحتوي على قاعة للدرس… يختلف عليها أستاذان، لكل منهما أوقاف خاصة، وإلى جانب هذه الأحياء الجامعية كانت خزانة الملك أبي يوسف وأبي عنان من بني مرين، ثم المنصور السعدي، هذه الخزائن التي تكون اليوم «خزانة القرويين» ذات الشهرة العالمية والمليئة بالمخطوطات الثمينة التي لا توجد إلا فيها، ومنها أرجوزة ابن طفيل في الطب وأجزاء من إنجيل القديس لوقا ويوحنا.
وعلى نهج ما استمر عليه العمل بالأندلس والمشرق، فإن الطلبة يحلقون على الأساتذة حلقاً متوالية، وقد تبلغ الحلقات إلى عشرين أو تزيد، وربما اختلط بالطلاب علماء رأوا من المفيد بالنسبة إليهم أن يستمعوا إلى وجهة نظر خاصة، وربما استمر الدرس الواحد من الشروق إلى الزوال، ويغلب أن يخصص الصباح لدروس الفقه وما بعد الزوال للعلوم الأخرى، أما عن أمد الدراسة فقد تحدد في هذه المرحلة إذ كان لا يتجاوز سبع سنوات، وقد كان على «الأوقاف» طوال هذه المدة أن تؤوي الطلاب وتمونهم.
ومن أبرز ما عرفه جامع القرويين في هذه الفترة نوع من الامتحان الذي يجري الآن في الجامعات الحديثة؛ تخريج الأساتذة المبرزين، ذلك هو نظام «الإجازة»، وإنَّ أخصَّ ما توصف به مناقشة نيل الإجازة أنها كانت بحق مجازاً عسيراً لا يقتحمه سوى الأكفاء المقتدرين، ومن أراد أن يتوسع في الموضوع فعليه بقراءة المجلدات الثلاثة التي ألفها المرحوم عبد الهادي التازي عن جامع القرويين.
وتؤكد المصادر أنه كان بفاس في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله (محمد الثالث) الذي راح يكون للقرويين «ملفاً» خاصاً بها سنة 1123ﻫ (1788 – 1789)، أزيد من مائة وعشرين كرسياً لتدريس العلم موزعة على مختلف فروع القرويين «المائتين والخمسين» المنبثة في كل منعطف، وفي كل زقاق وعلاوة على ست ومائة مدرسة أولية من بينها دور للفقيهات، ومن تلك الكراسي يوجد عشرون كرسياً بجامع القرويين نفسها يجري العمل في نيلها على نهج الأكاديميات الأصيلة.

