عشنا في غفوة طال عمرها لسنوات، نتحدث عن امتلاك القوة الناعمة، واستبدال البندقية بالأغنية، حتى امتلأ عقلنا الجمعي بمجموعة من الأفكار الحالمة التي لا تستند إلى دليل، ولا تقف على أرضية صلبة، ولا يدعمها منطق ولا واقع ولا حتى تاريخ قديم، ثم عندما راحت السكرة وجاءت الفكرة، لم تأت نظرية، بل أتت في هيئة واقع بشع، لو كُتب في الدراما لتعرض للنقد بدعوى عدم منطقيته، ومجافاته للواقع، ومبالغته الشديدة، لكنما خطت الأقدار أمرًا وضع هذه الأفكار موضع عبث مطلق، وأراد إفاقة الحالمين من غفوتهم، وقال لهم _ بالدليل وليس باللسان_ إن القوة الحقيقية هي قوة البندقية.. قوة التسليح.. القوة الصلبة، تلك التي تردع المعتدي، وترد الصاع صاعين، وتمنع نهب المقدرات، وتحمي الحدود والأرض والناس، هذه هي القوة، ولن يسعفك غيرها في حفظ كرامتك، قبل مقدراتك.
هي ليست دعوة لإهمال القوة الناعمة، ولا حتى التقليل منها، ولكنها دعوة لإحكام العقل، وإعادة الأمور لنصابها، والأولويات لترتيبها المنطقي، وذاتها الأحداث تذكرنا بأن زمان يأتي على الناس، يعرفون فيه أن الأوطان ومقدرات الشعوب ومصائرها لا يمكن أن تُسلم لميليشيا مهما رفعت من شعارات، ولا لمهرجين مهما تحدثوا حديثًا يوافق الهوى أحيانًا، وأن الأمن القومي للبلاد أهم من إخضاعه للتجربة، ولا لعبث العابثين، تلك الحقيقة التي أخبرتنا بها الأحداث، وتذكرتها الأمم حين نسيناها، فأغرقونا في رفاهيات غير ذي قيمة، ومضوا هم في طريق امتلاك القوة، والتسليح، فصدروا لنا وهمًا يقول إن الكلمة في الأغنية تقطع أكثر من البندقية، ثم عندما جاء وقت الجد، تحدثت البندقية، وأخرست صوت الأغنية، وأخذت الأمور سياقها الطبيعي، وتقدمت القوة الصلبة الصفوف، بينما لا يزال الحالمون غارقون في سُبات عميق، يستجيرون بالمؤسسات الدولية من الحرب، كالمستجير من الرمضاء بالنار، ويرفعون صوتًا لا يتجاوز الأذان، ويشيرون بورقة القوة الناعمة التي تحترق تحت وقع النيران، وتطير في الريح بين رصاصات الحرب.
لم يكن يتخيل أشد المتشائمين، غير المؤمنين بعدالة الأرض أن يومًا سيأتي تُضرب فيه عاصمة دولة ذات سيادة، عضو بالأمم المتحدة، دون أن ينقلب المجتمع الدولي رأسًا على عقب، ولو حتى من باب حفظ ماء وجه قادة الكوكب، وحفاظًا على آخر ورقة توت من السقوط في بحر الكفر بشعارات، تحطمت على عتبات زمن ترامب
فيما يمكن اعتباره دعوة للمراجعة، دونما لوم، وحاش لله أن يكون أكثر من تذكير لأهلي، عدت بذاكرتي قبل سنوات عشر، وتحديدًا في مارس من عام 2015 عندما كتب الرئيس السيسي، داعيًا بشكل صريح إلى تشكيل قوة عربية مشتركة، وأنقل هنا ما كتبه الرئيس قبل التعليق، حيث قال: “تشكيل قوة عربية مشتركة دون الانتقاص من سيادة أي دولة عربية، لتكون أداة لمواجهة التحديات التي تواجه الأمن القومي العربي”.. حينها أتصور لم يكن يخطر ببال حسني النية، أن العالم بهذا القدر من احترام القوي حصرًا، دون غيره، أو أن امتلاك القوة بهذه الأهمية، أو أن الاتحاد ضرورة تفرضها القراءة السليمة والذكية للمستقبل، ولا أدعي أنني وقتها كنت أكثر من غيري وعيًا بما كتب الرجل، ولكن لأن الشيء بالشيء يُذكر فلا يمكن التعليق على هذه الأحداث دون استدعاء هذه الدعوة، حفظًا لحق الرئيس في دقة قراءته للمستقبل، وتذكيرًا بأن كُلفة تحقيق وتطبيق هذه الدعوة وقتها كانت ستكون أقل بمراحل من الآن، وأن الفكرة أحيانًا تكون بنت وقتها، وأن تجاهلها أو حتى تأجيلها يحولها لاحقًا لحلم عصي على التطبيق، لذا يا ليت قومي يعلمون الآن، لأن ما نحتاجه الآن يعد من خصال البر، وخير البر عاجله، أو أن يهيئ الله لهذه الأمة أمر رشد، تعرف فيه أن الاتحاد لم يعد خيارًا، وأن امتلاك القوة الصلبة لن يكون رفاهية، إن نحن أردنا الحياة حافظين لكرامتنا ومقدراتنا.

