مع بداية كل عام دراسي، كان الهواء يتغير وكأنه يحمل رائحة مختلفة، مزيج من رهبة الاستيقاظ المبكر وفرحة الأقلام الجديدة والكراريس ذات الغلاف اللامع، ومع ذلك فإن الجوهر الحقيقى لتلك الأيام لم يكن فى جدول الحصص ولا فى حقيبة المدرسة المليئة، بل فى البيت الذى كان يضج بالضحكات والصخب، بيتنا الذى كان يستعد معنا ليبدأ يومًا جديدًا.
كنا فى البداية ثلاث بنات وولدين، ثم غيّرت الحياة موازينها فأصبحنا أربع بنات وثلاثة أولاد، وبين هذه الفوضى الجميلة، كان أخى الكبير هو القائد المعلن لفرقة الصباح لم يكن مجرد أخ، بل كان أشبه بـ رب البيت الصغير يوقظنا واحدًا تلو الآخر، يطمئن أن الزى المدرسى جاهز، ويصرّ على تحضير الفطور بنفسه ورغم بساطته، كانت رائحة البطاطس المقلية التى يقليها فى الزيت، كافية لتوقظ فينا حماسة الذهاب إلى المدرسة أكثر من أى جرس رسمى، كنا نضحك أحيانًا على جديته الزائدة، لكنه كان يحملنا بمزيج نادر من مسؤولية الأب وحنان الأخ.
ولا يمكن أن تكتمل الحكاية دون ذكر “الزى المدرسي”، فقد كان فصل شراء الملابس حدثًا كوميديًا بامتياز.. أمى دائمًا تختار مقاسات أكبر من أجسادنا الصغيرة، وهى تردد بجملتها التى لا تُنسى: عارفة إنه كبير، بس علشان السنة الجاية.. كنا أحيانًا نذرف دموعًا صادقة من الغضب لأن البنطلون واسع أو المريلة طويلة كأنها عباءة، ثم نرضخ فى النهاية للأمر الواقع بابتسامة مُرّة.. والأطرف أن هذا الزى العملاق كان يرافقنا فعلًا أكثر من عام، نُضيف له بعض “الرتوش” مع كل فصل دراسى وكأنه قطعة مستعملة جديدة.
اليوم، حين استرجع تلك التفاصيل، أكتشف أن الرزق الحقيقى لم يكن مالًا ولا جاهًا، بل إخوة يضيئون أيامي. أحيانًا أشعر أن نصيبى من الدنيا اختُصر فى ضحكاتهم، وفى تلك الأيدى التى دفعتنى للحياة برفق.
بداية المدارس لم تكن مجرد يوم جديد فى الفصل، بل كانت تذكيرًا دائمًا أن العائلة هى أول مقعد نتعلم عليه، وأول درس نحفظه وأن الأخوة رزق، والرزق لا يُقدَّر بثمن.

