أزمة المياه في العراق: التلوث والإهمال يهددان الأمن المائي والصحي
بغداد اليوم – بغداد
لا يقتصر خطر أزمة المياه في العراق على شحّ الإطلاقات أو تراجع مناسيب الأنهر، بل يتعداه إلى مشهد أكثر قتامة: التلوث والإهمال الذي حوّل دجلة والفرات من شرايين حياة إلى مجاري مثقلة بالمخلفات. هذه الصورة التي رسمها الخبير الاقتصادي كريم الحلو، تعكس عمق أزمة تراكمت لعقود من دون معالجة جذرية، حتى باتت تهدد الأمن المائي والصحي معًا، كما يوضح مختصون في الشأن البيئي.
التلوث والإهمال: عدوان للنهرين
يقول الحلو، إن "نهري دجلة والفرات، وهما شريان الحياة للعراقيين، يعانيان من تلوث وإهمال متواصل منذ عقود في ظل غياب خطط جدية لإعادة تأهيلهما". هذا التوصيف يفتح على حقيقة أن غياب السياسات المائية لا يقل خطورة عن العوامل الإقليمية التي تقلص حصة العراق من المياه. محللون يرون أن الإهمال الداخلي أضعف قدرة بغداد على مواجهة الأزمات الخارجية، وجعلها مكشوفة أمام ضغوط دول المنبع.
ملوثات قاتلة
الصورة المائية أكثر سوداوية عند تفصيل الملوثات. فمجرى النهرين يستقبل يوميًا كميات ضخمة من مياه الصرف الصحي غير المعالجة، سواء المنزلية أو الصناعية، لتتحول الأنهر إلى حواضن للأمراض. وتضاف إليها النفايات الطبية الخارجة من المستشفيات، وما تحمله من ملوثات بيولوجية خطيرة، فضلًا عن الزيوت والمذيبات والشحوم التي تطرحها المصانع.
ترسبات سامة
إلى جانب ذلك، كشفت فحوص ميدانية عن تراكيز مرتفعة من المعادن الثقيلة مثل الرصاص والكروم والزرنيخ والحديد، وهي عناصر سامة تتراكم في القاع وتضر بالصحة العامة. كما يفاقم الاستخدام المفرط للأسمدة والمخصبات الزراعية ظاهرة الإثراء الغذائي، التي تؤدي إلى نمو الطحالب وانخفاض الأوكسجين واختناق الحياة المائية. وفي الجنوب، تزيد الصناعات النفطية الطين بلة، حيث تُلقي المصافي بقايا النفط وتغطي سطح المياه بطبقة زيتية خانقة. ومع غياب إدارة النفايا، تتحول ضفاف الأنهار إلى مكبّ للنفايات الصلبة والبلاستيكية، فتفقد المياه انسيابها وتتحول مقاطع كاملة إلى برك آسنة.
غياب السدود والمشاريع
ويضيف الحلو أن "الحكومة العراقية لم تتمكن حتى الآن من إنشاء سدود في المصبّ، خصوصًا في البصرة، الأمر الذي ضيّع فرصة الاستفادة من المياه الزائدة وإعادة تصفيتها". هذه الإشارة تكشف عن معضلة مركبة: البصرة التي ترفد العراق بـ80% من الإيرادات النفطية لا تزال عاجزة عن تأمين مياه شرب كافية لسكانها. المختصون يربطون هذا التناقض بغياب العدالة في توزيع الموارد، حيث بقيت المحافظة الغنية بالثروة النفطية فقيرة في خدماتها الأساسية.
فجوة بين الإمكانات والواقع
ويؤكد الحلو أن "مياه البزل والمياه المالحة أسهل بكثير في التصفية من مياه البحر، إلا أن البصرة تُركت لعقود من دون مشاريع حقيقية للمعالجة". هذه الملاحظة تسلط الضوء على فجوة بين الإمكانات المتاحة والواقع الفعلي؛ فالعراق يمتلك أدوات لمعالجة المياه لكنه لم يستثمرها. مراقبون يوضحون أن تفاقم ملوحة شط العرب وتلوث الأنهر بمخلفات المستشفيات والمعامل ليس نتيجة عجز تقني، بل نتيجة غياب التخطيط والإرادة السياسية.
غياب حملات التنظيف
وفي محور آخر، يشير الحلو إلى أن "غياب حملات تنظيف واسعة لدجلة والفرات، وعدم التعاقد مع شركات متخصصة محلية أو أجنبية لصيانة الأنهر، أدى إلى تراكم الملوثات وتراجع القدرة الاستيعابية للمجاري المائية". هذه العبارة تفضح فراغًا إداريًا امتد لسنوات طويلة، حيث تُركت الأنهر لمصيرها، حتى بات شط الكوفة "مثالًا صارخًا على الإهمال، حيث تغزوه الأشجار والمخلفات والمياه الآسنة". مختصون يلفتون إلى أن هذه المظاهر لا تمثل فقط خطرًا بيئيًا، بل تضيع فرصًا اقتصادية في النقل النهري والتنمية السياحية.
التلوث والصحة العامة
ويتابع الحلو أن "التلوث الحالي للأنهار لم يقتصر على ضرب الاقتصاد العراقي، بل انعكس بشكل مباشر على الصحة العامة، إذ تزايدت حالات الأمراض بين الأطفال وكبار السن نتيجة استهلاك مياه غير صالحة للشرب". هذه العلاقة المباشرة بين التلوث وصحة المواطنين تعكس وجهًا آخر للأزمة: من أزمة إدارة موارد إلى أزمة حياة يومية. محللون يحذرون من أن استمرار هذا الوضع سيضاعف الأعباء الصحية والمالية على الدولة، ويقوّض الثقة بقدرتها على حماية أبسط حقوق الناس.
استراتيجية وطنية للإنقاذ
ما يطرحه كريم الحلو يكشف أن أزمة دجلة والفرات ليست وليدة نقص المياه فقط، بل نتيجة تداخل الإهمال والتلوث وغياب التخطيط الاستراتيجي. فمن فشل إنشاء السدود في البصرة إلى غياب حملات التنظيف، ومن تراكم الملوثات إلى تصاعد الملوحة، تتكشف صورة لأنهر تُركت لتنهار ببطء. الاستنتاج المتدرج يقود إلى أن العراق بحاجة إلى استراتيجية وطنية عاجلة تعيد الاعتبار لدجلة والفرات باعتبارهما ركيزة حياة لا مجرد موارد مهملة. والسؤال هنا: هل تتحول هذه التحذيرات إلى خطوات عملية، أم يظل العراقيون أسرى مشهد متكرر من الوعود المؤجلة؟