تقوم قوة الأمم الحقيقية على ما تختزنه من طاقة داخلية وقدرة على الصمود أمام الأزمات، حيث يقاس بقاء الدول واستمرارها بقدرتها في الحفاظ على نسيجها الداخلي، وتماسكها القيمي، واستمرار وعيها الجمعي في مواجهة التحديات وتمثل التجربة المصرية أنموذجًا فريدًا لهذه الحقيقة فالمناعة المجتمعية التي صارت جزءًا أصيلًا من الشخصية المصرية، فهي منظومة مركبة من القيم والعوامل والركائز التي تتضافر معًا لتجعل المجتمع المصري عصيًا على الانكسار، وعند التأمل في التجربة المصرية، يمكن الوقوف على أبرز مقومات هذه المناعة التي شكلت سياجًا واقيًا للدولة، ومصدرًا مستمرًا لقدرتها على النهوض، ومن أهم هذه المقومات الهوية الحضارية، والدين الوسطي، والجيش الوطني، والقيادة السياسية، والثقافة، والتعليم.
وتميل الهوية الحضارية ذاكرة الأمة ورصيدها التاريخي والعمود الفقري للمناعة المجتمعية، لأنها تحدد موقع الأمة ومكانتها، وتمنحها القدرة على التميز والاستمرار ومصر تحمل واحدة من أرسخ الهويات الحضارية في التاريخ الإنساني، وأنتجت ثقافة متفردة ومتجددة وتتميز بقدرتها على التأثير والإلهام، وتجلت هذه الهوية في قدرة المصريين على الاحتفاظ بملامحهم الحضارية رغم الغزوات المتكررة والاستعمار لم ينجحوا في محو الهوية المصرية، وذابوا داخلها وتحولوا إلى جزء من نسيجها.
ويعزى ذلك إلى أن المصري عاش حضارة تقوم على الوحدة بين الأرض والإنسان والدولة، وهي وحدة أفرزت شعورًا عميقًا بالانتماء والاعتزاز، مما جعل المصريين يرفضون الانكسار أو الذوبان في هوية دخيلة، ويكمن سر هذه الهوية أنها بقيت متجددة ومتطورة، قادرة على استيعاب المتغيرات دون أن تفقد جوهرها، فمصر الفرعونية امتدت في مصر القبطية، ثم وجدت اكتمالها في مصر الإسلامية، وصولًا إلى مصر الحديثة، هذه الاستمرارية الحضارية جعلت الهوية المصرية بمثابة درع نفسي وثقافي يحمي المجتمع من الانقسام، ويعزز مناعته أمام موجات العولمة والتطرف.
ويعد الدين الوسطي مرجعية أخلاقية ومقوم أصيل للمناعة المجتمعية المصرية، فلا يمكن الحديث عن المناعة المجتمعية في مصر دون التوقف أمام الدين الوسطي الذي شكل على مدى قرون طويلة أساسًا للتوازن والاعتدال في الشخصية المصرية، فالدين في مصر كان دائمًا مرجعية أخلاقية تجمع بين الروح والعقل، وتؤسس لمنظومة قيمية تسهم في صيانة النسيج الوطني وحماية المجتمع من الانقسام ومنذ دخول المسيحية ثم الإسلام، شكلت مصر نموذجًا للتسامح الديني والتفاعل الحضاري بين العقائد، بعيدًا عن الانغلاق والتعصب.
وقد جسدت المسيحية المصرية بجذورها العميقة قيم المحبة والسلام، وأسهمت في إثراء النسيج الوطني وتعميق الروح الإنسانية في المجتمع، أما الإسلام في مصر، فقد تميز بوسطيته التي تجسدت في الأزهر الشريف، تلك المؤسسة العريقة التي أصبحت على مدى أكثر من ألف عام منارةً للعلم، ومرجعيةً للاعتدال، وحصنًا لمقاومة الغلو والتطرف، ولقد منح هذا التوازن الديني المصريين قدرة استثنائية على مقاومة محاولات الفتنة الطائفية، ورسخ الوحدة الوطنية قاعدةً صلبة أمام أي تدخل خارجي، فعندما حاول الاستعمار اللعب على وتر الدين، كان الرد المصري وافيًا وحاسمًا برفع شعار الدين لله والوطن للجميع، وهو تعبير بليغ عن مناعة روحية وأخلاقية عميقة الجذور.
ويمثل الجيش الوطني أحد أبرز مقومات الصمود المصري، فهو درع الوطن وحامي هويته، ورمز لوحدة الأمة وتجسيد لإرادتها في الدفاع عن الأرض والعرض، ومنذ فجر التاريخ ارتبط الجيش المصري بوجدان الشعب، وظل جزءًا من نسيجه الاجتماعي، يستمد قوته من أصالة المجتمع ويعيد إليه الشعور بالأمان والثقة، ولقد كان الجيش دائمًا الحصن الذي يلتف حوله المصريون في لحظات التهديد الكبرى، ففي حرب أكتوبر 1973، تجلت هذه الحقيقة بوضوح، حيث خاضت المؤسسة العسكرية ملحمة تاريخية لاستعادة الكرامة الوطنية، وترسيخ الثقة بين الشعب وجيشه، وهو ما جعل من النصر رمزًا للتلاحم بين الأمة ومؤسستها العسكرية.
وبرز الجيش المصري في العقود الأخيرة، جنبًا إلى جنب مع الشرطة في مواجهة الإرهاب ومحاولات النيل من وحدة الوطن واستقراره، وأثبتت المؤسسة العسكرية أنها الحامي الحقيقي للدولة والمجتمع، القادرة على مواجهة المخاطر، وتعزيز الأمن الوطني في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية على حد سواء، فالجيش المصري مؤسسة وطنية جامعة تجسد فكرة الدولة ذاتها، وتعكس وعيها بدورها التاريخي، مما يغذي المناعة المجتمعية بوعي أمني وشعور دائم بالقدرة على مواجهة الأخطار، ويعزز الثقة بالوطن والمستقبل، ليظل دائمًا ركيزة أساسية في بقاء الدولة المصرية وصمودها.
وتحتاج المناعة المجتمعية دائمًا إلى قيادة واعية تدير الأزمات، وتوحد الصفوف، وتستثمر رصيد الأمة الحضاري والثقافي في بناء المستقبل، فالقيادة فن استشراف المستقبل وبناء الثقة بين الدولة ومواطنيها، وتتجلى أهمية القيادة السياسية في قدرتها على استنهاض طاقات الشعب، وصياغة رؤية واضحة للتنمية، وربط الأمن القومي بالكرامة الوطنية، وإدارة ملفات معقدة مثل مكافحة الإرهاب، وتحقيق الاستقرار الإقليمي، والتعامل مع التحديات الاقتصادية العالمية، وتعد ثقة المصريين بقيادتهم السياسية هي إحدى الركائز التي تعزز مناعتهم المجتمعية، وتمنحهم القدرة على مواجهة الأزمات بثبات.
وقد أظهرت التجربة المصرية الحديثة أن وجود قيادة واعية، قادرة على اتخاذ القرارات الصعبة ومواجهة التحديات بشجاعة، يعد عاملًا جوهريًا في صمود الأمة، ولقد واجهت مصر بعد 2011 أخطر محاولات تشوية والاختراق، لكنها استطاعت بفضل إرادة شعبها ورؤية قيادتها أن تستعيد استقرارها وتعيد صياغة أولوياتها، وتجلى ذلك في مشاريع قومية كبرى لإعادة بناء البنية التحتية، وإطلاق استراتيجيات تنموية، ومواجهة الإرهاب بوعي أمني وفكري متكامل.
وتعد الثقافة والتعليم من أبرز مقومات المناعة المجتمعية في مصر، فهما الأدوات التي تشكل الوعي الجمعي، وتبني الأجيال الجديدة، وتمنح المجتمع القدرة على حماية نفسه ومواجهة التحديات، فالثقافة المصرية، بما تمتلكه من إرث حضاري وإبداع متجدد، تمثل قوة ناعمة صنعت صورة مصر في العالم، وأمدت أبناءها بطاقة الانتماء والفخر، فيما يظل التعليم الركيزة الأولى لبناء الإنسان وصون هويته، ويشكل كل من الثقافة والتعليم جهاز المناعة الفكري للأمة، إذ يمدان المجتمع بالقدرة على مواجهة محاولات الاختراق الثقافي أو الغزو الفكري، ويعززان صلابة الهوية أمام رياح العولمة والتيارات المتطرفة، فلا مناعة بلا وعي، ولا وعي بلا ثقافة وتعليم، فهما الخط الدفاعي الأول الذي يحمي المجتمع ويدعم نهضته، وبث روح الانتماء، وتحصين المجتمع من حملات التشويه والاختراق الثقافي.
ونؤكد إن مقومات المناعة المجتمعية المصرية حقائق متجسدة في حياة الناس ومتجددة مع كل تحد جديد، فهي التي منحت مصر القدرة على البقاء كدولة حضارية عظيمة، وهي التي ستمكنها في المستقبل من مواصلة دورها الريادي إقليميًا ودوليًا، وحين تتكامل الهوية الحضارية، والدين الوسطي، والجيش الوطني، والقيادة السياسية، والثقافة والتعليم في نسيج واحد، فإننا نكون أمام أمة منيعة، قوية حكيمة، قادرة على تحويل كل أزمة إلى فرصة، وكل تحد إلى منطلق جديد للنهضة، وهكذا تبقى مصر بفضل مقومات مناعتها المجتمعية نموذجًا خالدًا لقوة الأمة حين تستند إلى إرادتها، وتتشبث بثوابتها، وتنظر إلى المستقبل بعيون واثقة وقلوب عامرة بالأمل.
___
* أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر