“الحماية”.. مفهوم تاريخي في السياسة المصرية، على مر العصور، وإن شهد تغييرات عميقة في تعريفه، بحسب الظروف التي رافقته، بين الداخل والخارج، فمنذ الحقبة الاستعمارية ساد المفهوم، عبر حديث القوى الطامعة في خيرات الوطن، عن حماية من أسموهم بـ”الأقليات”، بينما ارتبط في عصور أخرى بالأوضاع الداخلية، من خلال الحديث عن حماية طبقات بعينها، على رأسها محدودي الدخل، بسياسات من شأنها تحسين أوضاعهم الاقتصادية، تجلت في أبهى صورها في سياسات “الدعم”، والتي لم تحقق في واقع الأمر الهدف منها، بل ساهمت في تدهور اقتصاد الدولة، نتيجة عدم قدرة الموازنة العامة للدولة على مواصلة العمل على مساري التنمية والدعم في آن واحد، خاصة في ظل الفوضى التي ضربت البلاد خلال العقد الماضي، في أعقاب ما يسمى بـ”الربيع العربي”.
إلا أن “الحماية” في واقع الأمر باتت تتخذ صورا جديدة، خلال السنوات الماضية، تقوم في الأساس على خلق حالة من الارتباط العضوي، بين الدولة والمواطن، فمصلحة الأخير لا تتحقق إلا بتعزيز الحالة الكلية للدولة، سواء فيما يتعلق بالاقتصاد، أو السياسة أو حتى الدور في المحيط الدولي، فرفاهية المواطن ترتبط عضويا بالحالة التنموية للدولة، وهو ما ساهم في معالجة الكثير من أوجه القصور التي شابت سياسات الدعم، والتي اقتصرت في الأساس على تقديم سلع بأسعار زهيدة، في الوقت الذي تفاقمت فيه أزمات هيكلية، للدولة، منها عجز الموازنة، وعدم القدرة على تحديث بنيتها الأساسية، أو قطاعاتها الحيوية، في الوقت الذي عاني فيه الملايين من البطالة، وغابت عنهم الحياة الآدمية جراء تفشي العشوائيات، التي افتقرت إلى الحد الأدنى من الإنسانية.
ولكن بعيدا عن الاقتصاد وتشابكاته وأوضاعه، وما لحق به من تطور كبير، في الحالة الكلية، وما تبعه من تحسن كبير في حياة قطاع كبير من المواطنين، يبدو أن ثمة وجها آخر لـ”الحماية” التي تقدمها الدولة لمواطنيها، لا يمكن تجاهله بأي حال من الأحوال، يرتبط في الأساس بتأثير الدولة، ونفوذها وقدرتها على مد غطاء “الحماية” ليشمل مواطنيها في الخارج، وهو ما حرصت عليه الدولة المصرية، في السنوات الأخيرة، عبر خلق جسور التواصل بين المصريين في الخارج والوطن الأم، من خلال مبادرات عدة، حولت فيها الدولة المواطن إلى طرف فاعل، يرقى ليكون ممثلا لوطنه أمام المجتمعات التي يعيش فيها.
وبالنظر إلى المشهد الأخير، في بريطانيا، عندما تمكنت السلطات المصرية من الإفراج عن أحد مواطنيها، بعدما دافع عن سفارة بلاده دليلا دامغا على حالة الارتباط العضوي بين قدرات الدولة وإمكاناتها، وقدرتها على التأثير، من جانب، وما تقدمه من حماية لمواطنيها في الخارج من جانب آخر.
ولعل الحديث عن “الحماية” وارتباطه بقوة الدولة، تجلى على مسارين متوازيين في ضوء المشاهد الأخيرة، أولها تعزيز السفارات وحمايتها في ظل حملة شرسة يخوضها أنصار إسرائيل، سواء دولا أو جماعات، عبر صرف الأنظار عما يرتكب من مجازر من قبل قوات الاحتلال في قطاع غزة، وتحويل بوصلة الإدانة الدولية عن حكومة بنيامين نتنياهو نحو أطراف أخرى، وعلى رأسها مصر، والتي تعد الداعم الأكبر لحقوق الفلسطينيين، وأكبر الدول التي أعلنت موقفها المتمسك بالشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، وفي القلب منه تأسيس الدولة الفلسطينية، على حدود الرابع من يونيو، وعاصمتها القدس الشرقية، وهو الأمر الذي يتعارض مع رؤى تل أبيب وداعميها والجماعات الموالية لها، والتي تسعى إلى اختزال القضية جغرافيا في قطاع غزة، وسياسيا، عبر الحديث الباهت عن وقف إطلاق النار باعتباره هدفا نهائيا، في الوقت الذي ينبغي أن يكون فيه فرصة لتحقيق الاستقرار المستدام عبر تعزيز العدالة.
المسار الآخر، يتجلى في حماية المواطنين المصريين في الخارج، وهو الأمر الذي وضعته الدولة على عاتقها، باعتبارهم جزء لا يتجزأ من كرامتها، وهو ما يمثل تحولا كبيرا في إدارة العلاقة بين الدولة والمغتربين خارج حدودها.
في حين يبقى المسار الثالث، هو حماية الاستقرار الإقليمي، باعتباره مرتبطا بالأمن القومي المصري، وبالتالي فهو يرتبط مباشرة بمصالح المواطنين المصريين في الداخل، حيث يحمل تدهور الأوضاع في المنطقة تداعيات سلبية كبيرة على الأوضاع الاقتصادية، وهو ما يؤثر سلبا على أوضاع المواطنين، وبالتالي فإن الحاجة إلى استقرار مستدام، وإن كان يرتبط بصورة مباشرة بالحاجة الملحة إلى تحقيق العدالة الدولية، واستعادة حقوق الفلسطينيين في بناء دولتهم، فإنه في الوقت نفسه يمثل جزء من استراتيجية الاستدامة التي تتبناها القوى الإقليمية البارزة في المنطقة وعلى رأسها مصر، حيث تعتمد الرؤية التنموية في صورتها المستدامة على العديد من العوامل، التي لا تقتصر على الاقتصاد، وإنما تمتد إلى الحالة الأمنية والبيئية والسياسية، وغيرها، وهو ما يعني أن الاستقرار الإقليمي هو جزء من استراتيجية كبيرة تهدف، في جزء كبير منها، إلى إضفاء غطاء من الحماية للمواطن المصري.
وهنا يمكننا القول بأن “الحماية”، لم تعد مجرد سياسات ظرفية أو شعارات مرحلية، وإنما تحولت إلى إطار شامل يحكم علاقة الدولة بمواطنيها، في الداخل والخارج، ويربط بين رفاهية المواطن واستقرار الوطن من جهة، وبين دور مصر الإقليمي في الدفاع عن العدالة والشرعية الدولية من جهة أخرى. هي حماية تتجاوز فكرة الدعم الاقتصادي لتصبح تعبيرًا عن قوة الدولة وقدرتها على فرض حضورها، وصون كرامة أبنائها، وحماية مستقبلهم، في وطن آمن ومستقر، ومحيط إقليمي متماسك.

