تاريخية هي قرارات حصر السلاح بيد الدولة وبسط السيادة بواسطة القوى الشرعية. والسير بها أولوية حتى النهاية على أن ترفق بتفكيك البنى العسكرية الميليشياوية؛ لأن في ذلك مصلحة وطنية عامة يُحتمها التزام الدستور وخطاب القسم والبيان الوزاري، ليكون ممكناً استعادة الدولة القادرة التي تحتكر قرار الحرب والسلم. وهنا لافت تأكيد رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام: «قرار حصر السلاح بيد الدولة قد اتُّخذ، ومن دون ذلك لا أمن ولا استقرار، ومن دون أمن واستقرار لا استثمار يأتي ولا اقتصاد ينمو».
ولا مكان لمزاعم يجري الترويج لها بأن «اتفاق الطائف» نص على جمع سلاح ميليشيات الحرب الأهلية، وليس «السلاح المقاوم». إنه افتراء على «وثيقة الوفاق الوطني»، التي عدَّت كل سلاح خارج الشرعية مانعاً لقيام الدولة واستعادة هيبتها، ويعزز «الكنتنة» ودور قوى الأمر الواقع لتمارس التسلط والاستئثار. وتجربة «حزب الله» تؤكد ما تقدم مع إضافة جوهرية عن المسؤولية عن مناخ الفتنة الداخلية والاغتيالات إلى أدوار أخرى مباشرة في المنهبة وفي تغطية شركائه في المنظومة السياسية، وتثبيت «قانون الإفلات من العقاب»!
ليس سهلاً هذا المسار؛ فـ«حزب الله» يواصل تمرده وتنمره، ويوزّع تهم التخوين ويهدد بالمواجهة لإسقاط الحكومة لاتخاذها أول القرارات الوطنية منذ فرّط «اتفاق القاهرة» بالسيادة. وتحصين هذه التدابير يفترض الاقتران بخطوات إصلاحية لبسط السيادة المالية والاقتصادية، مع ما يقتضيه ذلك من شفافية في المساءلة والمحاسبة. على أن تستند العملية الإصلاحية إلى العدالة لحماية الحقوق وإعادة المنهوب، ليخلق ذلك «تسونامي» شعبياً داعماً للسلطة يمكنها من وضع قراراتها في التنفيذ وتجاوز عراقيل المتضررين الأقوياء.
تفترض حاجة اللبنانيين كما ضرورات تعافي البلد، تزاوج المسارين السيادي والإصلاحي، وعدم الاستخفاف بالتحديات: عملية جمع السلاح اللاشرعي يعيقها رفض «الحزب» التعاون، وضآلة المعلومات عن ترسانته الباقية وأمكنة التخزين. والأخطر يكمن في وجود أجيال غُسلت أدمغتها لا تدين بالولاء للدولة. يقابل هذه المعيقات أداء مقلق في مسائل الإصلاح والمحاسبة، وضمان إعادة الحقوق المنهوبة. هنا يكفي التوقف عند بعض الأمثلة لرصد مخاطر الخلل في الأداء الرسمي الذي يهدد فرصة تعافي البلد واستكمال تحريره.
قبل أيام نُشر «قانون إصلاح المصارف» فتبين أنه مُعدٌّ لبلد آخر، وليس للبنان الذي عرف أخطر منهبة طالت الودائع وهي جني أعمار الناس. غابت عنه كلمة محاسبة، ولم يعِد بتدقيق جنائي، ولا يشير إلى المسؤولية عن الانهيار المالي، ويتجاهل إعادة الودائع، والحديث هنا يطول 800 ألف حساب، أي 800 ألف أسرة. لكنه يركز على إعادة رسملة غير مشروطة للمصارف إياها، فيقدم إنقاذها على إنقاذ المجتمع.
لعقود شكل التعليم قيمة لبنانية مضافة، وتفترض التطورات السلبية التي طالته إعلان حالة طوارئ لإنقاذ القطاع الذي منح اللبنانيين ميزات تفاضلية. والحصيلة إعلان مخيب بجعل أسبوع الدراسة 4 أيام لأسباب مالية، وهو أمر لم يحصل زمن الحرب الأهلية. لقد كان المنتظر ورشة تحديث البرامج وإلزاميتها، لإزالة ما ترسب في بعض الأدمغة، من تلوث طائفي وعنفي، نتيجة سيطرة قوى مذهبية بعينها على التعليم وابتداعها لمناهج وظيفتها الإعداد للالتحاق بالخارج… فكان مخيباً ما حدث!
بعدما أسقط «شورى الدولة»، الضريبة الجائرة على المحروقات، مبيناً مخاطرها إزاء تواضع المداخيل والقفز فوق دور البرلمان صاحب الحق في التشريعٍ الضريبي، عاد وزير المال ياسين جابر على جاري عادة الحكومات السابقة يتمسك بفرضها قافزاً فوق التداعيات المتأتية عنها لجهة تكلفة نقل الأفراد والسلع كما تكلفة الفاتورة الغذائية. والأخطر تمثل بربطه تعويضات العسكريين المتقاعدين بها ما قد يفضي إلى صدام أهلي!
مؤخراً، أعاد الرئيس جوزيف عون التأكيد بأن البلد مسروق. لكن بعد 8 أشهر على بدء الولاية لم يعد مقبولاً الاكتفاء بالتوصيف. فقرارات بسط السيادة وحصر السلاح بيد الدولة، يكون استكمالها بإجراءات تفتح باب محاسبة الكارتل السياسي المصرفي الميليشياوي الناهب، الذي تحاصص البلد وتساكن مع السلاح اللاشرعي في سرير حكومي واحد. والمنطلق الذي سيلقى الاحتضان الشعبي يكون في استيفاء حقوق الدولة؛ فيطوى التعسف في الضرائب، ويحيى التعليم، وتؤمّن أموال المتقاعدين كما الأجور، وتتطور الخدمات الصحية من دون حاجة إلى الاستدانة. وكمثال، في 4 أشهر ارتفعت جباية الجمارك إلى 457 مليون دولار والمتوقع سنوياً مليار و400 مليون دولار، أي 165 في المائة مقارنة مع العام الماضي، وهذا ليس كل شيء. ومطلوب تحصيل حقوق الخزينة من قطاع الأسمنت والمقالع البالغة 3 مليارات و700 مليون دولار أوقفت تحصيلها وزيرة البيئة تمارا الزين بقرار تعسفي. ولتاريخه لا تجني الخزينة المليارات المستحقة من الأملاك البحرية والنهرية، ولا شفافية في عائدات الدوائر العقارية والهاتف وغيرها… لكن رغم الانهيار تموّل الخزينة دكاكين التعليم بـ340 مليون دولار سنوياً، وهو مبلغ كفيل بمنع انهيار التعليم الرسمي!
ثنائية السيادة والإصلاح شرط شارط للتقدم باستعادة الدولة موقعها بصفتها مرجعاً وحيداً للمواطنين وممراً إلزامياً لتعافي البلد!