بالنسبة إلى دونالد ترمب، تحمل خريطة أوكرانيا الموجودة على الحامل في المكتب البيضاوي رسالة واضحة. لقد سيطرت روسيا على جزء كبير من الأراضي في منطقة شرقية تُعرف باسم دونباس. لقد ضاعت تلك المنطقة المظللة باللون الأحمر، وكانت أوكرانيا بحاجة إما إلى عقد اتفاق للتوصل إلى السلام، أو المخاطرة بخسارة مزيد من الأراضي.
بالنسبة إلى فولوديمير زيلينسكي، الرئيس الأوكراني، أوضحت الخريطة، التي عُرضت خلال اجتماع مع الرئيسين وقادة أوروبيين يوم الاثنين، صورة أكثر تعقيداً. لم يكن ذلك اتفاقاً تجارياً أو لعبة بوكر، بل كان الأمر شخصياً. بعيداً عن الكاميرات، أخبر ترمب بأن جده قد خاض الحرب العالمية الثانية لتحرير مدن دونباس من النازيين، ولم يستطع تقبل تسليمها والتنازل عنها. ويوم الأربعاء أكد زيلينسكي مرة أخرى تلك النقطة بعد ساعات من عودته إلى العاصمة الأوكرانية كييف.
لا يزال أكثر الأوكرانيين يعارضون التنازل عن أي أراضٍ لروسيا، بحسب ما توضح استطلاعات الرأي، ويمنع الدستور الأوكراني تسليم الأراضي. ويواجه زيلينسكي اختيار دعم أمر غير شعبي بالنسبة للأوكرانيين، أو المخاطرة بإثارة غضب ترمب.
قال فاديم بريستايكو، وهو وزير خارجية سابق: «إنها مثل حبة سامة. سوف يتعين على أوكرانيا ابتلاع الأمر، ثم سنرى كيف ستهضمه بعد ذلك». ويتفادى زيلينسكي أي أسئلة من صحافيين بشأن ما إذا كان سيتنازل عن الأرض، ويقول إنه قد يناقش هذا الأمر فقط مع بوتين الذي لم يوافق على لقائه بعد.
وقال مسؤولون أوكرانيون سابقون، ومحللون سياسيون، إن الطريقة الوحيدة، التي يمكن بها لزيلينسكي إقناع الأوكرانيين بالتنازل عن الأرض، ستكون الحصول على ضمان أمني بدعم أميركي. وكان ذلك عصياً على أوكرانيا نظراً لاستبعاد ترمب منح البلاد عضوية في حلف شمال الأطلسي. مع ذلك على الضمان أن يكون قوياً، مع وجود بعض القوات الأوروبية، ودعم جوي أميركي يردع روسيا عن شن أي هجمات مستقبلية على سبيل المثال.
ومع ذلك أضاف أن الأوكرانيين يرون الأمر بطريقة مختلفة، حيث تباطأ تقدم روسيا في المنطقة خلال الثلاث سنوات الماضية. سوف يعني تسليم الجزء الباقي من منطقة دونباس الآن، التنازل عن مدن وحصون قد تساعد روسيا في بدء غزو مستقبلي.
لطالما تم النظر إلى منطقة دونباس باعتبارها موقعاً راكداً داعماً لروسيا، حيث يتحدث كثير من سكانها البالغ عددهم 6.7 مليون اللغة الروسية فقط، لا اللغة الأوكرانية، وصوّت واحد من بين كل عشرة لصالح فيكتور يانوكوفيتش، وهو رئيس مؤيد لروسيا، في 2010.
وعندما أجبرت احتجاجات موالية لأوروبا يانوكوفيتش على الاستقالة في بداية 2014، تصرفت روسيا بشكل سريع. في البداية سيطرت على شبه جزيرة القرم، ثم أثارت حركات انفصالية تمكنت، بمساعدة قوات روسية، من السيطرة على ثلث منطقة دونباس في صراع محدود أنذر بالحرب الحالية.
ونظرت الحكومة الأوكرانية في منح الحكم الذاتي إلى مناطق محددة في دونباس لتسوية الصراع بعد التوصل إلى اتفاق سلام تم التفاوض عليه في فبراير (شباط) 2015 في بيلاروسيا، رغم أن بوتين أراد ان يكون لدونباس المستقلة سلطة حق الرفض على كييف، خصوصاً فيما يتعلق بآمال الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. وقال هاري نيديلكو، مدير بارز في مؤسسة «راسموسين غلوبال» البحثية: «كان المقصد تحويل أوكرانيا إلى بلد غير قادر على ممارسة سيادته، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بسياسته الخارجية». ومع استمرار المفاوضات، ترشح زيلينسكي، الذي كان حديث العهد بالسياسة، لرئاسة أوكرانيا في 2019 أملاً في إحلال السلام مع روسيا.
وفاز زيلينسكي، وكان حينها منفتحاً على فكرة التوصل إلى حل وسط ومنح «وضع خاص» لمنطقة دونباس. وكان يعتقد أنه قادر على التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب خلال قمة سلام عُقدت في باريس مع بوتين في ديسمبر (كانون الأول) 2019. مع ذلك في الداخل، واجه ضغطاً سياسياً لتفادي أي اتفاق يجعل أوكرانيا تتخلى عن سيطرتها على دونباس.
وفي فبراير (شباط) 2022، بدأت روسيا غزوها الكامل واسع النطاق لأوكرانيا، وابتلعت مدناً في منطقة دونباس مما أجبر ملايين على مغادرة منازلهم. وبدا أن زيلينسكي، الذي شعر بصدمة من الغزو، يعيد النظر في منح شكل من أشكال الحكم الذاتي إلى دونباس. وصرح لمحطة «إيه بي سي نيوز» بعد أسبوع من الغزو: «يمكننا مناقشة حل وسط بشأن وضع تلك الأراضي».
وقال جارابيك، الذي يعمل حالياً محللاً في شركة «آر بوليتيك» للتحليلات السياسية في أوروبا، إن أوكرانيا تحولت عن ذلك الموقف، وهو ما تجسد في المعركة الدموية من أجل الحفاظ على مدينة بخموت. وبدأ حدوث عمليات انسحاب بطيئة بعد معارك طويلة أجبرت روسيا على فقدان كثير من جنودها.
مع ذلك وفيما يمثل فوزاً لزيلينسكي، قال ترمب خلال الأسبوع الماضي، إن الولايات المتحدة سوف تشارك في منح ضمانات أمنية لأوكرانيا. ويقود ماركو روبيو، وزير الخارجية الأميركي ومستشار الأمن القومي، الجهود المبذولة للعمل على التفاصيل. السؤال الحقيقي هو: هل ستقبل روسيا مثل تلك الضمانات؟ تريد أوكرانيا سبل حماية على طريقة حلف شمال الأطلسي، لكن روسيا بدأت الحرب في دونباس منذ عقد، ومن أسباب ذلك منع كييف من الوصول إلى حلف شمال الأطلسي. لماذا ستسمح روسيا بمنح مثل تلك الضمانات الأمنية الآن؟
* خدمة «نيويورك تايمز»