شهد لبنان في تاريخه موجتين كبيرتين من الهجرة، الأولى بين أواخر القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى (1865-1916)، حيث هاجر ما يقارب 330 ألف شخص من جبل لبنان، آنذاك. والموجة الكبيرة الثانية خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) عندما هاجر خلالها نحو 990 ألف شخص.
منذ بدء الأزمة الاقتصادية عام 2019 ولبنان يشهد موجة ثالثة من الهجرة أكبر من الموجتين السابقتين وأكثر خطورة، إذ تهدّد لبنان بحرمانه من عنصر الشباب «عنصر القوى العاملة». ففي دراسة قام بها «مرصد الأزمة» التابع للجامعة الأميركية في بيروت عام 2023، أظهرت أن 77 في المائة من الشباب يسعون إلى الهجرة أو يفكرّون بها وهي نسبة أعلى من الدول التي شهدت أو تشهد حروباً كالعراق أو ليبيا أو غيرهما.
في الواقع، إن عدم الاستقرار السياسي، والظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة، وارتفاع نسبة البطالة، واستشراء الفساد، وانعدام الحريات وغيرها من الأسباب القاهرة، تجعل اللبنانيين يهاجرون من بلدهم إلى بلاد يجدون فيها كل ما يفتقدونه في بلدهم الأم من فرص عمل وازدهار اقتصادي ومستوى معيشي مرتفع وأمن واستقرار وأمان صحي واجتماعي وغيرها من العوامل الجاذبة والمشجّعة لـِ«هجرة الأدمغة» ورأس المال البشري من علماء وأطباء ومهندسين ومتخصّصين وأصحاب كفاءات. وهذه ظاهرة غير جديدة، فقد شهد التاريخ هجرات واسعة من أوروبا إلى أميركا الشمالية في القرنين التاسع عشر والعشرين، كما أنه في القرن الأخير تركّزت هجرة الأدمغة من البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وبعض دول أميركا اللاتينية، إلى البلدان المتقدمة مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وبعض الدول الأوروبية وغيرها سعياً وراء حياة أفضل.
يقدّر عدد المهاجرين والمتحدرين من أصول لبنانية حول العالم يما يتراوح بين 12 مليوناً و18 مليون شخص، وتشير تقديرات أخرى إلى أن هذا الرقم يصل إلى 5.9 مليون نسمة في الشتات اللبناني، حيث يشكل هذا الشتات نسبة 62 في المائة من مجموع اللبنانيين والمتحدّرين من أصولهم، ولم تكن هذه النسبة تتجاوز 45 في المائة في عام 1959، وفقاً للموقع الرسمي للجيش اللبناني. كذلك، تشير تقديرات حديثة إلى أن عدد المهاجرين بين عامي 2019 و2023 قد بلغ نحو 500 ألف نسمة، بينما تشير التقديرات إلى أن عدد المهاجرين من لبنان وصل إلى 178 ألف شخص في الأشهر العشرة الأولى من يناير (كانون الثاني) إلى أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2024. ويفيد تقرير صدر في 2024 بأن أعداد المغادرين باتجاه واحد شهدت تراجعاً بنسبة 18.4 في المائة مقارنة بالفترة المماثلة من عام 2023.
من هذا المنطلق فإن للهجرة آثاراً سلبية تدفع بالمهاجرين للانتشار في مختلف أصقاع العالم، منها نفسية واجتماعية، ومنها شعور بالغربة في بلد الاغتراب، وعدم الانتماء، وتحديات الاندماج في مجتمع جديد، وحواجز اللغة والثقافة، وغيرها من العوامل التي تشكّل عائقاً أمام المهاجر من الفترة الأولى. ولكن، مما لا شك فيه، في المقابل هناك آثار إيجابية كذلك. فإن المغتربين اللبنانيين الذين غادروا مدنهم وقراهم سعياً وراء العيش الكريم أو هرباً من المآسي أو طلباً للعلم أو لأسباب أخرى، أسهموا في نمو البلدان التي حلّوا فيها، كما أسهموا في مدّ بلدهم بالدعم الذي يشكّل شرياناً أساسياً لصمود أهلهم خلال الفترات الحرجة، وخصوصاً الأزمة الأخيرة التي مرّ بها لبنان على مرّ سنوات طويلة حيث تتراوح تحويلات المغتربين إلى ذويهم في لبنان بين 7 و8 مليارات دولار سنوياً. لكن هذه التحويلات ليست كل ما يدعم به المغتربون بلدهم وأهلهم، بل هناك ثمة مبادرات كثيرة ساهمت وتساهم في صمود اللبنانيين المقيمين، على سبيل المثال: منها مبادرات فاعلة ومستمرة لتأمين فرص عمل عن بُعد للشباب اللبنانيين في شركات أصحابها لبنانيون مغتربون وذلك بالاتفاق مع الجامعات في لبنان، وغيرها من المبادرات التي تكون صلة الوصل بين البلد الأم وعالم الاغتراب.
في 3 حزيران (يونيو) عام 2025 انعقد مؤتمر في فندق فينيسيا – بيروت، برعاية فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية جوزيف عون، لتعزيز التعاون بين مختلف الوزارات المعنية والكفاءات اللبنانية المنتشرة في بلاد الاغتراب، جمع المؤتمر نخبة من اللبنانيين المتخصصين في مجالات التحوّل الرقمي، والتكنولوجيا، وتطوير وتطبيق أنظمة الحكومة الذكية بما يخدم ويساهم في تحديث الإدارة، وتحسين جودة الخدمات، وتعزيز الشفافية والمساءلة.
حضر المؤتمر شخصيات محلية ودولية، وممثلون عن القطاع الخاص، والعاملون في هذا المجال، حيث شارك أكثر من 30 متحدثاً من الوزراء المعنيين، والخبراء من الاغتراب اللبناني، وممثلي القطاع الخاص، وحضور نحو 500 شخصية محلية واغترابية. إذ قال ربيع الأمين، رئيس مجلس التنفيذيين اللبنانيين: «إننا نؤمن بأن الطاقات اللبنانية الاغترابية تملك من القوة والخبرة ما يكفي للمساعدة في بناء حكومة ذكية وعصرية في وطننا، تحاكي متطلبات العصر والمستقبل».

