أرسل لي شخص مجهول، يوم الجمعة الماضي، عبر البريد الإلكتروني، مقالاً من موقع أميركي يميني متطرف، بوصفه دليلاً مزعوماً يثبت أنني قتلت زوجي باستخدام لقاحات «كوفيد» -مما يشكّل إعادة تدوير للسردية الباطلة نفسها، التي روّج لها البعض في الأسابيع التي تلت وفاته أواخر عام 2022.
وحسب أنصار نظريات المؤامرة حول لقاحات الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA)، فإن أي وفاة مبكرة أو مشكلة صحية منذ بداية الجائحة يجري إرجاعها إلى لقاحات «كوفيد» المعتمدة على تقنية «mRNA». وفي الغالب، يربط هؤلاء ما بين أحداث طبية منفصلة تماماً باللقاح به، من دون أي دليل. الحقيقة أنهم غالباً ما يربطون أحداثاً طبية، لا علاقة لها باللقاح، بزوجي، من دون أي دليل. لقد توفي زوجي بسبب تمزق في تمدد الشريان الأورطي -حالة لا علاقة لها على الإطلاق بلقاحات «كوفيد». وقد أكدت نتائج التشريح ذلك. ومع ذلك، فإنه من منظور أصحاب هذه النظريات، يمكن دمج أي حادثة من هذا النوع في سرديتهم.
في ذلك الوقت، لم أكن أدرك أن هذا البريد الإلكتروني كان بمثابة تمهيد لما سيحدث في وقت لاحق في اليوم نفسه: خبر إطلاق نار في مقر المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها. وأفادت أنباء بأن المسلح الذي أطلق النار تحرك بدافع نظريات المؤامرة المتعلقة بلقاحات «كوفيد». وألقى باللوم على اللقاحات في اكتئاب يعانيه. وأسفر الهجوم عن مقتله وضابط مسؤول عن إنفاذ القانون، فيما امتلأت جدران المكان بثقوب بسبب طلقات الرصاص.
تبدو الرمزية التي تنطوي عليها الحادثة جلية للغاية: أصبح العلماء والأطباء ومسؤولو الصحة العامة ومسؤولو إنفاذ القانون -الأشخاص الذين تتمثل مهمة حياتهم في حماية الأمة- مستهدفين.
ومن جهته، طلب اتحاد مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، من المسؤولين الفيدراليين إدانة المعلومات المضللة حول اللقاحات، لأنها تعرِّض الأرواح للخطر.
في الواقع، لطالما كانت الصحة العامة داخل الولايات المتحدة مثيرة للانقسام، خصوصاً أنها تقع عند تقاطع العلم والسلطة الحكومية والحرية الشخصية والمصالح الاقتصادية -مواضيع لطالما انخرط الأميركيون في مناقشات ساخنة حولها. من الحجر الصحي للجدري في القرن التاسع عشر، إلى أوامر حزام الأمان في القرن العشرين، إلى قيود «كوفيد» في عصرنا، تتطلب الصحة العامة مجهوداً جماعياً داخل مجتمع شديد الارتباط بالحرية الفردية. ويمكن لتدابير الصحة العامة، بما في ذلك أوامر اللقاح، أن تعطل الاقتصاد والحياة الأسرية، فضلاً عن تحدي الأعراف الثقافية -وهي ضغوط يمكن أن تفرِّق الناس، كما فعلت خلال الوباء. ويمكن أن تكون مثيرة للجدل بشكل خاص، عندما يجري إلقاء اللوم على أسس حزبية أو ثقافية.
في الواقع، لقد اكتسبت قضية لقاحات «كوفيد» طابعاً قبلياً. وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، زعم ناشط سياسي أميركي يميني متطرف أن لقاحات «كوفيد» قد «قتلت الكثير والكثير من الناس». وتنبأ بوقوع مزيد من الوفيات في هذا السياق.
في المقابل، انهال المعلقون الداعمون للقاح بالسخرية والإهانات على المتشككين في اللقاح، مما عزز الانطباع بأن الجدل حول اللقاح يتعلق بالهوية والمكانة الاجتماعية بقدر ما يتعلق بالأدلة أو الجوانب المتعلقة بالصحة.
وبدا هذا النمط واضحاً طوال فترة جائحة «كوفيد». وأخفق المسؤولون والخبراء عبر مختلف درجات الطيف السياسي، في كثير من الأحيان، في شرح القيم والمساومات الكامنة وراء قراراتهم. وفي أثناء الجائحة، وبصفتي عضواً في المجلس الاستشاري لـ«كوفيد-19» في إدارة بايدن، كنت أتحدث عن ضرورة «اتباع العلم». وشرحت أن هذا يعني أن التوصيات قد تتغير مع ظهور أدلة جديدة. ومع ذلك، كان بإمكاني التحلي بقدر أكبر من الوضوح تجاه أن إعطاء الأولوية لإنقاذ الأرواح قد يعني التضحية بمنافع اجتماعية واقتصادية أخرى، وأن مثل هذه المفاضلات أمر لا مفر منه لدى التعامل مع أزمة بهذا الحجم. وكنت أتحدث عن هذه الخيارات بحلول مايو (أيار) 2020، لكن استجابة الجائحة كانت قد ترسخت بالفعل آنذاك على امتداد خطوط الانقسام الحزبي.
وتنتشر معلومات مضللة حول لقاحات «كوفيد» على الإنترنت -بل يجري الترويج لها أحياناً من الحكومة الفيدرالية- الأمر الذي يعود لأسباب منها أن العلم جرى التعامل معه في أثناء الجائحة بوصفه المصدر الوحيد للحقيقة، بدلاً من اعتباره أداة مهمة من بين أدوات أخرى، إلى جانب الخبرة الحياتية والسياق والتاريخ والثقافة والقيم. هذا الفهم الخاطئ جعل العلم عُرضة للتحريف لأغراض سياسية، واللافت أن اثنين من أقوى الأشخاص الذين يصوغون سياسة الصحة في الوقت الراهن، يتورطان في ذلك بالفعل.
فيما يخص الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يعني هذا تهميش المعلومات غير الملائمة سياسياً: من رفض بيانات الوفيات في بورتوريكو بعد «إعصار ماريا»، إلى الادعاء بأن البلاد كانت تُجري اختبارات مفرطة للكشف عن «كوفيد» أوائل عام 2020، إلى إقالة رئيس مكتب إحصاءات العمل هذا الشهر.
من وجهة نظر وزير الصحة، روبرت إف. كينيدي الابن، يتعلق الأمر بتغيير حراس البوابة وإعادة تعريف ما يُعد موثوقاً: إصلاح المجلس الاستشاري للقاحات التابع لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، وربما التخطيط لإصلاح مماثل لفريق عمل الخدمات الوقائية الأميركية، وشن حرب على لقاحات «mRNA»، ومجال الأمراض المُعدية. المؤسف أن خطاب إدارة ترمب نزع الطابع الإنساني عن عمال مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها. هنا، ينبغي الانتباه إلى حقيقة أن العلم منهجٌ لصياغة الفرضيات واختبارها، وليس مجموعةً ثابتةً من الحقائق. وينبغي أن يعمل جنباً إلى جنب مع طرق المعرفة الأخرى، وتجب كذلك حمايته من الاستغلال السياسي أو التجاري. ربما أكون ساذجة إذا اعتقدتُ أن هذا الحفظ ممكن، لكن عندما يفشل، يتلاعب الناس بالحقائق، وتنهار الثقة، وتفقد القرارات العامة رسوخها في فهمٍ مشتركٍ للواقع. ويقوِّض هذا بدوره الأهداف الجوهرية لسياسة الصحة العامة، التي يُفترض أن تكون مسعىً جماعياً.
في الواقع، لا ينبغي أن يكون أمراً خلافياً أو محل انقسام حزبي القول إن العنف السياسي أمر خاطئ، وإن إفساد العلم والتلاعب بالبيانات أمر خاطئ، وإن الخدمة العامة عمل وطني شريف. إن استعادة هذا الخط الأساسي المشترك -وحماية المؤسسات والأشخاص والعمليات التي تجعله ممكناً- هي السبيل الوحيد لضمان سلامة كلٍّ من صحة المجتمع وصحة ديمقراطيتنا بوجه عام.
* خدمة «نيويورك تايمز»

