منذ عقود طويلة ظل مشروع “إسرائيل الكبرى” حاضرًا فى الوعى الصهيونى، متغذيًا على نصوص وتأويلات دينية مزعومة تسعى إلى إضفاء قدسية على مشروع التوسع الاستعمارى، ورغم أن الحديث عنه قد يبدو أحيانًا مجرد خيال سياسى أو شعار دعائى، فإن الوقائع على الأرض تكشف أن الفكرة تتحول تدريجيًا إلى خطوات عملية تتجسد ببطء ولكن بثبات.
يعود هذا المشروع إلى بدايات الحركة الصهيونية، حين أعلن مؤسسها ثيودور هرتزل في مطلع القرن العشرين أن “أرض الميعاد” تمتد من النيل إلى الفرات، ومع صعود حزب “الليكود” إلى الحكم عام 1977 بزعامة مناحيم بيجن، جرى تحويل هذه العقيدة إلى برنامج سياسى واضح، تمثل في استخدام الاسم التوراتى للضفة الغربية “يهودا والسامرة”، وإطلاق أكبر موجات الاستيطان التى هدفت إلى السيطرة الفعلية على الأرض باعتبارها الخطوة الأولى لتحقيق الحلم الأكبر.
الفكرة التوراتية التى تروج لها مؤسسات إسرائيلية مثل “معهد التوراة والأرض”، والتى لم يتردد بنيامين نتنياهو في الحديث عنها صراحة، تكشف ملامح عقيدة توسعية ممتدة منذ نشأة الحركة الصهيونية، فهى لا تقف عند حدود الدولة المعترف بها دوليًا، بل تفتح شهية الاستيطان والضم على حساب الأراضى الفلسطينية والعربية، عبر تصور يقوم على أن “أرض إسرائيل الكبرى” تشمل مساحات شاسعة تتجاوز فلسطين التاريخية لتضم الأردن ولبنان وأكثر من نصف سوريا، ونصف العراق، وأجزاء من السعودية ومصر والكويت، وهكذا تتحول الخارطة من كيان صغير محاصر فى قلب الشرق الأوسط، إلى مشروع إمبراطورى يستند إلى نصوص دينية يعاد تأويلها سياسيًا لتبرير أطماع استعمارية وتوسعية.
لم يعد المشروع مجرد شعار، بل صار سياسة تنفذ عبر خطوات متدرجة، منها التوسع الاستيطانى فى الضفة الغربية، تهويد القدس، ومحاولات إفراغ غزة من سكانها، والتغلغل الاقتصادى والسياسى فى دول الجوار، هذه السياسات تكشف عن استراتيجية “فرض الأمر الواقع”، بحيث تسبق الخطوات الاستيطانية أى تسوية سياسية، وتغلق الباب أمام إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وتبرز غزة اليوم باعتبارها الساحة الأكثر دموية التي تكشف عن حقيقة هذا المشروع، فالعمليات العسكرية التى لا تهدأ، والتدمير الممنهج للبنية التحتية، واستهداف المستشفيات والمدارس ومخيمات اللاجئين، ليست مجرد حرب عابرة، بل حلقة فى مخطط أكبر يسعى إلى إفراغ القطاع من سكانه أو دفعهم إلى النزوح الجماعى، إن ما يحدث فى غزة ليس فقط صراعًا عسكريًا، بل محاولة لإلغاء وجود الفلسطينيين كحقيقة بشرية على أرضهم.
فالجرائم اليومية، من استهداف المدنيين إلى حصار الغذاء والدواء، تعكس طبيعة المشروع الذى يريد تحويل غزة إلى أرض بلا شعب، وهو ما ينسجم مع الرؤية التوراتية التى تبرر الاستيطان والتهجير بوصفه “استعادة لأرض الأجداد”، وهكذا، تتحول غزة إلى اختبار حقيقى لقدرة إسرائيل على فرض عقيدتها التوسعية بالقوة، بعيدًا عن أى التزامات دولية أو إنسانية.
خطورة المشروع لا تتعلق فقط بالخرائط المرسومة فى الأدبيات الصهيونية، بل بآثاره المباشرة على المنطقة العربية بأسرها، فنجاحه يعنى إعادة رسم الحدود بالقوة، وتقويض فكرة الدولة الوطنية، وتهديد الأمن القومى العربى من المحيط إلى الخليج، ومع استمرار الحرب على غزة، يتضح أن استهداف فلسطين ليس سوى البداية، وأن الهدف الأكبر هو خلق واقع جديد يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية فى المنطقة وفق الرؤية الصهيونية.
إن مواجهة “إسرائيل الكبرى” تتطلب كسر العزلة عن القضية الفلسطينية وربطها مباشرة بمستقبل المنطقة، فالمشروع التوسعى لا يستهدف فلسطين وحدها، بل يضع في مرمى أطماعه مساحات هائلة من الأرض العربية، وبينما يواصل قادة إسرائيل رفع شعارات دينية لإضفاء الشرعية على أطماعهم، يبقى الرهان على وعى الشعوب العربية وإرادتها فى مواجهة أخطر مشروع استعمارى لا يزال يتنفس فى القرن الحادى والعشرين.
ما يحدث فى غزة اليوم ليس بعيدًا عن مستقبل المنطقة غدًا، بل هو إنذار مبكر بأن المشروع التوسعى لن يتوقف عند حدود فلسطين، ومن هنا، تصبح غزة خط الدفاع الأول عن الوجود العربى في مواجهة مشروع استعمارى يستهدف الأرض والهوية معًا، ويهدد بتحويل الشرق الأوسط إلى ساحة مفتوحة لأحلام توراتية تسعى إلى التمدد بلا حدود.

