مَن قال إن الذكاء الاصطناعي وُلد في وادي السيليكون؟ دعُونا نُعد كتابة الحكاية… ولكن بلغة التاريخ الحقيقي.
قبل آلاف السنين، لم تكن هناك شرائح إلكترونية، ولا وادي السيليكون، ولا حتى كهرباء. لكن على أرض الجزيرة العربية، وُلدت الشرارة الأولى لما نُسمّيه اليوم بالذكاء الاصطناعي… دون أن نحمل له هذا الاسم. هنا، حيث خطّ الإنسان على ألواح الطين أول أبجدية بشرية.
هنا، حيث تفتّق عقل السومري والآشوري والكلداني والبابلي عن مفاهيم اللغة والمنطق والحساب، هنا بالضبط… بدأ بناء العقل الصناعي، وإن لم تكن له آلات بعد.
فالذكاء الاصطناعي، في جوهره، يقوم على ثلاثية مقدّسة: اللغة، والمنطق، والخوارزميات. وكلّها، دون استثناء، خرجت من رحم هذه الأرض العربية الأولى.
ثم جاء العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، ليضع للعالم أسس العلم الحديث، لا بنظريات غامضة، بل بلغة دقيقة وأخلاق معرفية متجذّرة.
وظهر العالم الفذ محمد بن موسى الخوارزمي، ليؤلّف كتابه العظيم «الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة»، ما بين المدينة المنورة وبغداد، مُهدياً البشرية أول خريطة واضحة للعمليات الحسابية المنطقية.
ومن اسمه وُلِد مصطلح «Algorithm» -كلمة تُردّدها اليوم كبرى جامعات العالم، وتقوم عليها كل خوارزمية تشخيص طبي، وكل شبكة عصبية اصطناعية، وكل روبوت يُجري جراحة معقّدة.
الذكاء الاصطناعي، إذن، لم يولَد على شواطئ كاليفورنيا، بل في صدور العلماء العرب الذين سبقوا عصرهم…
وها هي السعودية اليوم، تُعيد هذا المجد بلغة جديدة… لغة «رؤية 2030»، والذكاء الموجّه بالقيم، والتقنية المنبثقة من الأصالة.
وبينما كان الغرب يُعيد ترتيب أوراقه، كانت السعودية ترسم المستقبل بثقة، وفي الوقت الذي كانت فيه دول الغرب تُراجع نماذجها وتتحسّب لثورة الذكاء الاصطناعي القادمة، كانت المملكة العربية السعودية تمضي في طريقها بثبات ووضوح.
حين أُطلقت «رؤية 2030»، لم يكن الذكاء الاصطناعي مجرّد هامش تقني في دفتر التحول… بل كان أحد أعمدته المحورية، ومحوراً عابراً لكل القطاعات: من الاقتصاد إلى الصحة، ومن التعليم إلى المدن الذكية.
لكن البداية لم تأتِ من أبراج لامعة أو مؤتمرات دعائية، بل من البنية التحتية الرقمية، التي لا يراها الناس، لكنها تُشكّل أساساً لكل ما سيأتي:
• ملف صحي موحّد يُرافق المواطن من المهد إلى الشيخوخة.
• منصات رقمية مثل «صحتي» و«نفيس» تُحوّل الخدمات الصحية إلى تجربة رقمية يومية.
• نظام ربط إلكتروني شامل يربط المنشآت الطبية، العامة والخاصة، بمركز واحد للبيانات والقرارات.
كل ذلك لم يُبْنَ للتفاخر الرقمي… بل لصناعة أرضية حقيقية تُدرّب عليها الخوارزميات، وتُختبر فيها أدوات الذكاء الصحي، وتُصمَّم فيها حلول تتكلّم لغة المواطن… حرفياً. لكن ذروة هذه الرؤية ليست في المدن القائمة، بل في المدن التي لم تُبْنَ بعد في نيوم، لا تُبنى المستشفيات كما نعرفها، بل يُعاد تعريف الطب من جديد. هنا، لا مكان للممرّض الذي يستدعي ملفاً ورقياً، ولا للطبيب الذي يبحث في أرشيف، بل لكل مريض توأم رقمي (Digital Twin)، ولكل جهاز خوارزمية تنبؤية تفهم قبل أن يُسأل. أما في «ذا لاين»، المدينة التي ستُبنى بلا سيارات ولا ضوضاء، فالصحة لن تكون وجهة تُزار وقت المرض… بل ستكون نسيجاً ضمن الحياة اليومية.
كل بيت سيكون عيادة استباقية:
1. أجهزة استشعار تراقب أنفاسك، ونبضك، ونومك، ومشاعرك.
2. ذكاء اصطناعي يتعلّم من نمطك، ويُبلغ عن الخطر قبل أن تشعر به.
3. أنظمة تفاعلية تتنبّه لأي تغير في كيمياء الجسم أو السلوك، وتُرسِل تنبيهاً للطبيب الذكائي، أو تقترح تعديلاً غذائياً أو دوائياً.
ولماذا كل هذا مهم؟
لأن المملكة تملك كنزاً لا يقدّره كثير من الدول: بيانات صحية ضخمة، ومنظمة، ومتعددة المصدر، ومكتوبة بلغة عربية.
هذا الكنز المعرفي، حين يُدرَّب عليه الذكاء الاصطناعي، لا يُنتج نموذجاً عاماً، بل يُنتج ما يُسمّى «الذكاء المحلي»:
ذكاء يفهم اللهجة، ويُقدّر السياق، ويستوعب الحساسية المجتمعية، فيُصبح أدق، وأعدل، وأكثر إنصافاً من أي خوارزمية مستوردة.
وهنا… يولد جيل جديد من الذكاء الاصطناعي: ذكاء لا يُدار من وادي السيليكون بل من أرض الجزيرة.
لا يتكلم بالإنجليزية وحدها بل بلغة الضاد، ولا يُعامِل المرضى على أنها حالات رقمية بل بصفتهم بشراً، بثقافة وتاريخ وخصوصية.
رحلة الذكاء الاصطناعي من الطين السومري إلى العيادة الذكية في الرياض لم يعد الطبيب السعودي فيها يجلس خلف سماعةٍ يدوّرها بين أصابعه، بل بات يجلس خلف شاشة ذكية يرى فيها المريض ليس بصفته شخصاً، بل نظاماً حيّاً متعدد الطبقات:
صورة في الوقت الحقيقي، وتاريخ جيني، وقراءات دماغية، وتحليل لمشاعره، ولعابه، ونومه، وسلوكه.
الطب الحديث هنا لا يُخرّج «أطباء تقليديين»، بل يُخرّج شيئاً جديداً تماماً: مبرمجي صحة، ومهندسي مشاعر، ومحللي تنبؤات.
منصّات مثل «طبيب المستقبل» و«الممارس الرقمي» في السعودية لا تعلّم كيف يُشخَّص المرض، بل كيف يُتوقَّع قبل أن يظهر، وكيف تُبنى الخوارزمية حول الإنسان، لا العكس.
وشخصياً، كنت شاهداً ومشاركاً في واحدة من أهم اللحظات التحولية لهذا التوجه، حين تمّت دعوتي لتمثيل الذكاء الاصطناعي الطبي ضمن جلسات معرض الصحة العالمي (Global Health Exhibition) في الرياض، على مدى دورتين متتاليتين.
وفي تلك الجلسات، لم تكن النقاشات من النوع الذي يكرره الإعلام تحت عنوان «مستقبل الطب»، بل كانت مختبرات استراتيجية لتوجيه الذكاء نفسه، واقتراح نماذج سعودية رائدة، والتفاعل مع نخبة من أهم علماء الذكاء الاصطناعي الصحي في العالم.
كنت هناك، لست بوصفي مستمعاً بل ككاتب لخريطة الطب الجديد، بخوارزمية عربية، وبصمة سعودية.
نعم، السعودية أبرمت اتفاقيات مهمة مع عمالقة مثل «Google Health» و«IBM Watson»، لكنها لم تتوقف هناك، بل بدأت تطوّر نماذجها الخاصة:
• مشروع «الطبيب الرقمي السعودي».
• مساعدين افتراضيين أذكياء في العيادات الجامعية.
• نماذج تقييم الذكاء العاطفي في الابتسامة، والجمال، والانطباع النفسي للمريض.
والاتجاه الآن لم يعد نحو «طب عام» بل نحو «طب شخصي»، إذ لا نسأل: «ما المرض؟» بل: «ما احتمالية أن تمرض؟»، حيث تُدرس بصمتك الجينية والميكروبيوم وساعة الشيخوخة البيولوجية، ويُحدَّد العلاج بناءً على خريطة دقيقة تخصك أنت لا على أساس بروتوكول عام مكتوب لغيرك.
وفي الختام: الذكاء الذي بدأ على الطين يعود إلى أرضه، لكن بلغة رقمية. والذكاء الاصطناعي لم يبدأ مع ChatGPT، ولا مع روبوتات الجراحة، بل بدأ عندما خطّ السومريون أول رموز المنطق على ألواح الطين، وعندما كتب الخوارزمي أول خوارزمية في قلب العالم العربي. واليوم يعود هذا الذكاء إلى مهده، إلى أرض الجزيرة، لكن بأدوات أكثر دقة، ولغة أكثر جرأة، وعقول جاهزة لتصنع لا لتستهلك.
السعودية اليوم لا تسأل: كيف نلحق بالركب؟ بل تقول: حان الوقت لنقود.