لغز التمايز الخلوي
لطالما حير العلماء لغز تحول خلية واحدة إلى مليارات الخلايا المتخصصة التي تشكل أجسام الكثير من الكائنات الحية، من خلايا دم تحمل الأكسجين إلى خلايا قلبية نابضة من بداية العمر إلى نهايته، وحتى خلايا دماغ عصبية معقدة وشديدة الحساسية. هذا هو جوهر ما يعرف بيولوجيًا باسم "التمايز الخلوي". ورغم احتواء كل خلية حية على نفس الجينات، فإن كلا منها تتمايز بشكل مختلف أثناء النمو وتكون الجنين عبر نوع مميز من الخلايا يسمى الخلايا الجذعية والذي يمتلك مرونة تمايز مذهلة.
مشكلة التمايز الخلوي
تكمن مشكلة التمايز الخلوي في أن "عوامل النسخ" -وهي البروتينات التي تعمل مفاتيح لتشغيل وتثبيط الجينات- غالبًا ما توجد بمستويات متداخلة في الخلايا الجذعية، مما يصعّب من فهم كيفية اكتساب كل خلية هويتها الدقيقة.
دراسة حديثة
وفي سياق هذا اللغز المُعقد، ركزت دراسة حديثة، منشورة في دورية "ذا سيل" على آليات بيولوجية مثيرة وغير متوقعة تتحكم في هذه العملية. وتقول مي مبروك، أستاذة المعلوماتية الحيوية الطبية بجامعة النيل الأهلية المصرية، وغير المشاركة في الدراسة، "تُعدّ الدراسة نموذجًا متقدمًا في الربط بين التجريب واسع النطاق والنمذجة التنبؤية، وتفتح المجال لتطبيقات محتملة في العلاج الجيني والهندسة الخلوية."
منهجية مبتكرة
اعتمدت الدراسة على منهجية مبتكرة تقوم على استخدام تسلسلات حمض نووي اصطناعية (شترستوك) لتحتوي على مواقع ارتباط محددة لـ 38 عامل نسخ رئيسي. وسُمت هذه البيئة الجينية المُحكمة بالتحكم الكامل في كل متغير، مثل عدد مواقع الارتباط وقوتها والمسافة بينها.
صانع المفاتيح الجينية
لتجاوز تعقيدات الجينوم الطبيعي، تبنى الباحثون نهجًا فريدًا من نوعه. فبدلاً من دراسة الجينات كما هي في الطبيعة، قاموا بتصميم وبناء 64.400 تسلسل حمض نووي اصطناعي، تحتوي على مواقع ارتباط محددة لـ 38 عامل نسخ رئيسي.
الازدواجيات الثلاثة
بعد جمع البيانات من التجارب، استخدم الباحثون أدوات الذكاء الاصطناعي لبناء نماذج يمكنها التنبؤ بكيفية تصرف المحفزات الجينية المختلفة في ظل ظروف معينة أو في خلايا محددة. وهذه النماذج تساعد على فهم القواعد التنظيمية المعقدة التي تحكم التعبير الجيني. تقول مي مبروك "تسلّط هذه الدراسة الضوء على 3 آليات رئيسية تتحكم في خصوصية المحفزات الجينية حسب حالة الخلية أثناء تمايز الخلايا الجذعية الدموية" وتضيف "هذه المبادئ مكّنت الفريق من تصميم محفزات اصطناعية ذات نشاط محدد في حالات خلوية معينة".
مفاتيح الحياة حسب الطلب
تفتح هذه الاكتشافات الباب أمام إمكانيات جديدة في تصميم المحفزات الجينية كمفاتيح تحكم للحياة بقدرات تنظيمية مذهلة. فقد تمكن الباحثون من تصميم محفزات اصطناعية تحقق أنماط نشاط محددة في خلايا معينة، مما يمثل قفزة نوعية في مجال البيولوجيا التركيبية. هذه القدرة على "تصميم" عناصر تنظيمية حيوية من الصفر تحمل وعودًا كبيرة في عدة مجالات.
تطبيقات المستقبل
وسيلعب توجيه الخلايا الجذعية للتمايز بدقة إلى أنواع خلايا محددة دورًا كبيرًا في استبدال الأنسجة التالفة، كما قد ينجح تطوير علاجات جينية أكثر دقة تستهدف الخلايا المريضة فقط، مما يقلل الآثار الجانبية. ويُعد تصميم نماذج خلوية للأمراض -لفهم كيف يؤدي الخلل بالتنظيم الجيني لأمراض معقدة مثل السرطان- أحد أهم التطبيقات البحثية المستقبلية.

