على مدى السنوات الأخيرة، شهدت منظومة كرة القدم السعودية تحوّلاً نوعياً في طريقة إدارة الموارد المالية، بفضل الحوكمة الصارمة التي فرضتها لجنة الرقابة المالية التابعة حالياً لرابطة الدوري السعودي.
هذه الحوكمة ليست شعارات أو تعليمات عامة، وإنما إجراءات فعلية سعت للحد من الديون المتراكمة، وكبح موجات الإقالات العشوائية للمدربين وتغيير اللاعبين بطريقة فوضوية، وهي ممارسات ظلت مسيئة للدوري لعقود طويلة، وتسببت في تراكم التزامات مالية بمئات الملايين من الدولارات على عشرات الأندية.
يكفي أن نتذكر أن الدولة اضطرت للتدخل مرتين، في 2018 و2022، لتسديد تلك الديون وإنقاذ الأندية من أزمات خانقة كانت تهدد استمراريتها ولا تزال تفعل بين فترة وأخرى ولكن بوتيرة أقل.
اليوم، ورغم أن خطوات الإصلاح المالي بدأت تؤتي ثمارها، فإن التحدي الحقيقي يكمن في ضمان استدامة هذه المنهجية.
في تصوري، المسألة لم تعد مرتبطة فقط بوجود أنظمة رقابية أو قوانين صارمة، بل بمدى قدرة وزارة الرياضة ورابطة الدوري والاتحاد السعودي لكرة القدم على إيجاد حلول عملية وفورية تجعل الأندية قادرة على العمل بثقة واطمئنان، دون قلق بالغ من التعثر المالي، سواء في الموسم الحالي أو السنوات المقبلة.
صحيح أن فرق التخصيص تبذل جهداً كبيراً لنقل ملكيات الأندية إلى مُلاّك ومستثمرين جدد، وهي خطوة مهمة على المدى البعيد، لكن المرحلة الحالية تفرض على المسؤولين معالجة إحدى أكثر المشكلات إلحاحاً، وهي انتظام تدفق الميزانيات المالية المخصصة واستدامتها.
في تقديري الشخصي، جزء كبير من الأزمات التي تواجهها الأندية كان ينطلق في الأساس من تردي علاقات الأندية مع اللاعبين والمدربين أو النزاعات التعاقدية المعتادة، وسببه تأخر صرف المستحقات أو مقدمات العقود.
وعندما تتأخر هذه الأموال فإن صورة الدوري السعودي، بكل ما يملكه من سمعة دولية، تتأثر سلباً، لأن هؤلاء اللاعبين والمدربين يذهبون إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم أو محكمة التحكيم الرياضي في لوزان للمطالبة بحقوقهم، ثم بعد ذلك تأتي الأحكام القطعية بمبالغ ضخمة تربك عمل الأندية.
أقترح أن تكون هناك آلية أو برنامج يتفق عليه مع الجهات المعنية لضمان وصول المخصصات الشهرية والربع سنوية والنصف سنوية والسنوية إلى الأندية في مواعيدها المحددة، بلا تأخير ولا تعقيدات إدارية، لأن الواقع الحالي يؤكد أن 99 في المائة من الأندية لم تعد تعتمد على ما كان يُعرف بأعضاء الشرف، الذين كانوا في الماضي يضخون الأموال لدعم فرقهم.
في هذه المرحلة، بات هذا الدعم محدوداً جداً وبمبالغ زهيدة لا تكفي لتغطية نفقات يوم واحد من أيام هذه الأندية.
المشكلة ليست في الأندية الكبرى، فهي تحت مظلة صندوق الاستثمارات العامة، كما هو الحال مع ناديي القادسية ونيوم اللذين يداران عبر شركتيهما المعروفتين، لكن هناك 13 نادياً آخر بحاجة ماسة للمتابعة والحلول العاجلة، خصوصاً في فترات سوق الانتقالات، لترتيب أوراقها المالية والفنية.
قد يكون لبعض الإجراءات الروتينية أو البيروقراطية دور في تأخير صرف الميزانيات، لكن المفروض أن تعمل وزارة الرياضة والرابطة واتحاد القدم على تجاوز هذه العراقيل، لأن استمرارها يعني مزيداً من الأزمات المالية، وصورة غير لائقة لدوري يريد أن يثبت أنه نموذج في الاستدامة والانضباط الإداري.
باختصار، إذا أردنا أن يظل الدوري السعودي في صدارة المنافسات العالمية، فالحوكمة وحدها لا تكفي، بل يجب أن تُدعَّم بسيولة مالية منتظمة ومستدامة، حتى لا نعود إلى دوامة الديون والإقالات التي دفعتنا في الماضي إلى تدخلات طارئة لم يكن أحد يرغب في تكرارها.