تعيش مالي منذ أيام على وقع حملة غير مسبوقة داخل المؤسسة العسكرية، أسفرت عن اعتقال عشرات الضباط من مختلف الرتب، بينهم شخصيات مرموقة خدمت في مواقع حساسة ومناطق اشتباك ميداني. وبينما تؤكد السلطة الانتقالية أن ما جرى «إجراء احترازي»؛ لمنع محاولات مزعومة لزعزعة المرحلة الانتقالية، يقرأ المراقبون هذه التطورات في إطار صراع داخلي على النفوذ قد تكون له تداعيات تتجاوز حدود البلاد.
انطلقت الحملة بهدوء في الخامس من أغسطس (آب) الحالي، قبل أن تتسارع وتيرتها في عطلة نهاية الأسبوع، لتصل إلى أكثر من 37 موقوفاً بحلول الأحد 10 أغسطس، بينهم قادة ألوية ووحدات ميدانية. واللافت أن العملية نُفِّذت في غياب وزير الدفاع، العقيد ساديو كامارا، الذي كان في جولة رسمية شملت النيجر وبوركينا فاسو. بينما تشير مصادر متعددة إلى أن غالبية الموقوفين مقربون منه، وهو ما غذّى التكهنات بشأن وجود تصفية حسابات داخل الدائرة الضيقة للسلطة.
هذه التطورات تأتي في سياق سياسي وأمني معقد. فمنذ إطاحة الرئيس المنتخب إبراهيم بوبكر كيتا في أغسطس 2020، ثم انقلاب مايو (أيار) 2021 الذي قاده العقيد عاصيمي غويتا ضد شركائه المدنيين، تعيش مالي مرحلة انتقالية مضطربة تأجلت خلالها المواعيد الانتخابية أكثر من مرة. ومع كل تأجيل، يزداد الشك في أن هدف السلطة الانتقالية لم يعد التمهيد لعودة الحكم المدني بقدر ما هو إطالة أمد بقائها.
الأسماء المستهدَفة من الحملة الأخيرة تعكس حساسية الخطوة. الجنرال عباس ديمبلي، الحاكم السابق لمنطقة موبتي، يُعرَف بخبرته الميدانية وقيادته عمليات ضد الجماعات المسلحة. أما الجنرال مريم ساغارا، فهي من الرموز النسائية النادرة في قمة هرم الجيش، وصاحبة مسيرة طويلة في سلاح الجو والإعلام العسكري، ورمز لانفتاح المؤسسة على الكفاءات النسائية.
استبعاد هذه الشخصيات، في ظل احتدام المواجهات مع الجماعات المسلحة، يرسل إشارة بأن الولاء السياسي بات معياراً متقدماً على الكفاءة العسكرية.
ولكن ما يثير الانتباه هو أن هذه الأسماء وغيرها محسوبة على العقيد ساديو كامارا، وزير الدفاع منذ انقلاب 2020، والرجل الثاني في النخبة العسكرية التي تحكم مالي منذ 5 سنوات، والشخصية التي تثار حولها كثير من علامات الاستفهام، وكثيراً ما وُصف بأنه «العقل المدبر» للاستراتيجية العسكرية في مالي، و«مهندس» الصفقات العسكرية مع الروس والأتراك.
كامارا تلقى تكوينه العسكري في روسيا، وتربطه علاقات وطيدة بموسكو، وفي الوقت ذاته يحمل الجنسية الفرنسية، وأخيراً فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات؛ بسبب «ارتباطه الوثيق» مع مجموعة «فاغنر» الروسية الخاصة، كل هذه التناقضات تجعل منه مصدر قلق لخصومه ورفاقه، على حد سواء.
إنَّ أي أزمة في هرم السلطة الحاكمة في مالي، ستكون لها تداعيات كبيرة، والبعد الإقليمي لهذه الأزمة لا يقل أهمية عن بعدها الداخلي. فمالي تمثل إحدى نقاط الارتكاز في استراتيجية الأمن الإقليمي، حيث تتشارك حدوداً طويلة ومعقدة مع 7 دول، فهي مطلة على شمال أفريقيا عبر حدود طويلة مع الجزائر، وهي مرتكز دول الساحل؛ النيجر وبوركينا فاسو، ولها حدود مع موريتانيا والسنغال في الغرب حيث المحيط الأطلسي وحقول الغاز الواعدة، ومن الجنوب تطل على غينيا وكوت ديفوار، حيث يوجد خليج غينيا الحيوي.
إن أي خلل في تماسك الجيش المالي ينعكس مباشرة على جهود مكافحة الإرهاب عبر الحدود، ويمنح جماعات مثل «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» الموالية لـ«القاعدة»، وفرع «داعش» في الصحراء الكبرى، مساحة أوسع للتحرك.
هذا بالإضافة إلى أن انهيار مالي، يعني انهيار مشروع «تحالف دول الساحل» الذي يضم النيجر وبوركينا فاسو، واستثمرت فيه الدول الثلاث كثيراً من الجهود والأحلام الكبيرة؛ للقضاء على الإرهاب وتحقيق الرفاه المشترك.
كما أن شركاء مالي الدوليين، من بينهم روسيا عبر «فيلق أفريقيا»، وتركيا التي عزَّزت تعاونها العسكري مع باماكو، يتابعون بقلق هذه التطورات. بالنسبة إلى هؤلاء، فإن استقرار القيادة العسكرية شرط أساسي لضمان تنفيذ الاتفاقات الأمنية والعسكرية. وفي حال تفاقمت الانقسامات داخل الجيش، فإن قدرة هذه الشراكات على التأثير على الأرض ستتراجع.
على الصعيد الداخلي، تمثل هذه الحملة مؤشراً على أن السلطة الانتقالية باتت ترى في بعض قادتها العسكريين خطراً موازياً للتهديدات الخارجية. وهو منطق يضعف تماسك الجيش ويخلق حالة من انعدام الثقة بين المستويات القيادية، ما قد ينعكس على الأداء الميداني. تجربة دول أفريقية أخرى تؤكد أن الجيوش المنقسمة من الداخل أقل قدرة على مواجهة التهديدات، وأكثر عرضة للانقلابات المضادة أو الانهيار المعنوي.
ولكن الخطر الأكبر هو أن تكون هذه الأزمة «مفتعلة»، أو على الأقل جرى تضخيمها من طرف تيار داخل السلطة، لخلق «أعداء وهميين» للتغطية على عدم الإسراع في تحقيق مكاسب ميدانية جديدة، خصوصاً بعد الخسائر التي تكبدها الجيش في معاركه الأخيرة ضد المقاتلين الطوارق والعرب، وازدياد نفوذ التنظيمات المتطرفة في وسط مالي وجنوبها.
إن ذلك يعني أن مالي ستدخل نفقاً مظلماً من تصفية الحسابات العبثية، التي ستقود البلاد إلى أزمة أكثر تعقيداً من كل الأزمات التي تغرق فيها الآن، وقد تمتد آثارها إلى ما وراء الحدود، وتضع الأمن الإقليمي أمام اختبارات قاسية.
في المحصلة، الأزمة الحالية في مالي ليست شأناً داخلياً صرفاً، بل هي حلقة في سلسلة أزمات متشابكة في الساحل، حيث تتقاطع مصالح القوى الإقليمية والدولية مع ديناميكيات أمنية وسياسية معقدة.