لم يعد الإعلام في زمننا المعاصر مجرد نافذة لنقل الأخبار أو منصة لسرد الأحداث، بل تحول إلى ساحة معركة رئيسية يتشكل فيها وعي الشعوب وتتحدد عبرها صورة الدول أمام مواطنيها والعالم. وفي ظل هذا التحول العميق، جاءت توجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي الأخيرة لتشكل خريطة طريق جريئة نحو إعلام وطني متطور، يجمع بين المهنية والانفتاح، ويحافظ في الوقت ذاته على الهوية المصرية وثوابتها الراسخة. هذه التوجيهات، بما تحمله من رؤية استراتيجية، ليست مجرد دعوة للتطوير التقني أو التنظيمي، بل هى مشروع متكامل لإعادة صياغة المشهد الإعلامي بما يتناسب مع متطلبات الجمهورية الجديدة، ويمكن الإعلام المصري من استعادة مكانته الريادية محليا وإقليميا ودوليا.
وأبرز ما يلفت الانتباه في حديث الرئيس السيسي هو التأكيد على مبدأ “الرأي والرأي الآخر”، وهو مبدأ لا يقتصر على كونه شعارا ديمقراطيا أو مطلبا إعلاميا، لكنه يمثل ضرورة عملية لضمان حيوية المشهد الإعلامي وبناء جسور الثقة بين وسائل الإعلام والجمهور. فالإعلام الذي يكتفي بعرض رؤية واحدة مهما كانت قوتها سرعان ما يفقد قدرته على الإقناع والتأثير، بينما الإعلام الذي يتيح مساحة متوازنة للحوار الموضوعي بين مختلف الاتجاهات يحافظ على مصداقيته ويعزز دوره كمنبر وطني يفتح أبوابه لكل الأصوات الوطنية.
ويعكس تركيز الرئيس على الكوادر الشابة المؤهلة إدراكا عميقا لأهمية ضخ دماء جديدة في شرايين الإعلام، قادرة على مواكبة أدوات العصر الرقمي، وإنتاج محتوى يجمع بين الجودة والابتكار، ويتفاعل مع الجمهور بلغة يفهمها ويثق بها. هذا التوجه يحمل أيضا رسالة واضحة بأن المستقبل للإعلاميين الذين يجمعون بين الحس الوطني والكفاءة المهنية، ويستطيعون تقديم صورة مصر للعالم بصورة تنافسية تليق بتاريخها ومكانتها.
لكن تحويل هذه الرؤية إلى واقع يتطلب حزمة خطوات متكاملة، تبدأ بإنشاء أكاديمية وطنية للإعلام تقدم برامج تدريبية متقدمة تشمل الصحافة الرقمية، وصحافة البيانات، وفنون الإخراج والتقديم، وإدارة الأزمات الإعلامية، بالشراكة مع خبراء دوليين ومؤسسات تدريب عالمية. فضلا عن تعزيز البنية التكنولوجية للمؤسسات الإعلامية، سواء في قطاع البث أو الصحافة المكتوبة أو المنصات الرقمية، بحيث تكون قادرة على إنتاج وتوزيع المحتوى وفق المعايير العالمية، وبما يتيح لها منافسة القنوات الإقليمية والدولية.
ومن النقاط الجوهرية التي ركز عليها الرئيس إتاحة المعلومات والبيانات لوسائل الإعلام، خاصة في أوقات الأزمات، وهى خطوة حاسمة لمحاصرة الشائعات والأخبار المضللة. فغياب المعلومة الدقيقة يخلق فراغا إعلاميا يسهل استغلاله من قبل أطراف معادية أو جهات مغرضة، بينما الشفافية في تدفق المعلومات تمنح الجمهور الثقة، وتعزز مصداقية الرسالة الإعلامية، وتمنح الإعلاميين القدرة على تقديم تغطيات مهنية رصينة.
وفي إطار المنافسة العالمية الشديدة في المجال الإعلامي، فمن الضروري أن يتبنى الإعلام المصري مشاريع إنتاج مشترك مع مؤسسات دولية مرموقة، بهدف نقل صوت مصر وقضاياها للعالم بلغة يفهمها ويتفاعل معها، إلى جانب الاستثمار في تنويع المحتوى، بحيث يشمل مساحات أكبر للمواد الثقافية والفنية والتنموية والترفيهية، التي تسهم في الارتقاء بالذوق العام، وترسخ الهوية المصرية في مواجهة تحديات العولمة الثقافية.
إن توجيهات الرئيس الأخيرة لا تقتصر على كونها برنامجا لتطوير الأداء الإعلامي، بل هى رؤية شاملة لإعادة بناء الثقة بين المواطن والإعلام، ولجعل الإعلام شريكا أساسيا في مشروع الدولة المصرية لبناء الجمهورية الجديدة. والرهان اليوم على قدرة المؤسسات الإعلامية الحكومية والخاصة، على التفاعل مع هذه الرؤية بروح من الانفتاح والمسؤولية، وتحويلها إلى واقع ملموس يراه المواطن في جودة ومصداقية ما يُقدم له، ليصبح الإعلام المصري مجددا صوتا وطنيا حرا قادرا على المنافسة والتأثير في الداخل والخارج.

