أشعر بأننا حتى الآن لم نفكر كما يجب في حاجتنا لثقافة قومية نشارك جميعاً -نحن العرب- في إنتاجها، ونجعلها هدفاً مشتركاً نلتزم بأدائه، ونستعد له بما نكتشفه وندعمه وننميه من المواهب، وبما نبنيه من مؤسسات، ونوفره من أجهزة وأدوات، وبما ننظمه من نشاط مشترك نتبادل فيه الخبرة، ونحقق به التكامل الذي تتحقق به وحدتنا الثقافية.
هذا النشاط لا يزال مفتقَداً حتى الآن. وأنا أنظر إلى الماضي القريب وأقارن ما كانت عليه ثقافتنا القومية، قبل نصف قرن من اليوم بما صارت إليه الآن، فأجد أننا فقدنا كثيراً مما حققناه من قبل.
حين نقرأ ما كانت عليه حركة الترجمة، وما ساعد عليها من اتصال اللبنانيين والمصريين بالأوروبيين، وخصوصاً بالفرنسيين، وكيف أُنشئت المعاهد والمدارس، وصدرت الصحف والمجلات، وكيف ظهرت الفرق المسرحية، وكيف أُنشئت المجامع اللغوية في دمشق والقاهرة، وكيف أُنشئت الجامعات؛ حين نقرأ ما كانت عليه هذه النهضة الحديثة، وكيف بدأت وانتشرت وتطورت، نجد أنفسنا أمام حركة ثقافية يشارك فيها الجميع، ما بين العراق والشام ومصر، إلى تونس والمغرب. ويكفي أن ننظر لهذا النشاط في مصر، لنرى كيف اجتمع المغاربة والمشارقة في دور العلم والصحف والنشر والتمثيل، وكيف تحقق هذا الإنتاج الغني المشترك.
والآن ننظر حولنا، فنرى كل قُطر من أقطارنا مكتفياً بما يقدمه من أعمال، لا يخاطب بها غير جمهوره المحلي المحدود، ولا يملك من المنابر ووسائل الاتصال ما كان يملكه قبل ستين عاماً أو سبعين. صحيح أن هناك مهرجانات تُقام وزيارات تُتبادل بين حين وآخر؛ لكنها تظل احتفالات رسمية ومفردات متناثرة لا تدخل في سياق مشترك، ولا تصل إلى غاية، ولا تترك صدى.
وأنا أحاول أن أعرف ما يدور الآن من نشاط ثقافي في لبنان، أو في العراق، أو في تونس، أو في المغرب، لا أجد وسيلة أتصور بها هذا النشاط في جملته وأتحاور بها معه.
طبعًا، أقرأ ما يصل إلى يدي مما ينظمه بعض الشعراء، أو ما يصدر لبعض الكتاب والمترجمين، ولكن ما يصلني لا يتيح لي أن أراه في صورة حية جامعة لها ما يؤلِّف بين عناصرها، ويشخصها ويميزها عن غيرها؛ بل إن هذا الوضع الذي تنعزل فيه الثقافات العربية المحلية بعضها عن بعض، ولا تستطيع أن تتوحد في ثقافة قومية جامعة؛ هذا الوضع لا يفرق بين الثقافات المحلية وحدها؛ بل يفرق بين نشاط كل مثقف ونشاط الآخرين داخل الثقافة المحلية ذاتها، وقد يتجاوز الحدود، وينشئ بين الأفراد بعضهم وبعض، وبين كل جماعة وجماعة، حدوداً ومسافات يبدو فيها النشاط الثقافي في كل قطر موزعاً متفرقاً، ينتمي بعضه لعصر أو لثقافة، وينتمي غيره لعصر آخر أو لثقافة أخرى. وربما بدأ الكاتب بصورة، ثم انقلب على نفسه فدخل في صورة أخرى. هذه الظاهرة تكررت في الأعوام الخمسين الأخيرة، ولم تكن مجرد تطور أو مراجعة، وإنما كانت انقلاباً؛ رأساً على عقب!
وفي الربع الأخير من القرن الماضي، كان الدكتور زكي نجيب محمود أستاذ الفلسفة، يكتب مقالة أسبوعية لصحيفة «الأهرام»، يعالج فيها قضايا الفكر والثقافة، ويطرح الأسئلة المعلقة ويجيب عنها. وفي مقالة له عنوانها «دماغ عربي مشترك» ناقش هذه القضية التي أناقشها في هذه المقالة، وصرَّح فيها بأن «رجال الفكر العربي مبعثرون على نحو يستحيل معه أن تلتقي روافدهم في نهر عظيم واحد».
وفي تلك السنوات ذاتها -ثمانينات القرن الماضي- تعرَّضت أنا أيضًا لهذه القضية ذاتها في مقالة سألت فيها نفسي عن «الوحدة الثقافية العربية: واقع أم هدف؟» وتحفظتُ في الإجابة؛ لأني وجدت لها في الواقع شروطاً تثبتها، كما وجدت شروطاً تنفيها.
وفي الماضي -حتى الماضي القريب، حين كان التراث العربي هو الثقافة المتاحة للجميع، فنحن نقرأ الشعر الجاهلي، والعباسي، والأندلسي، ونقرأ «الأغاني»، ونقرأ القصص والمقامات، ونقرأ لبعض الفلاسفة ونقرأ عنهم – في ذلك الوقت كانت أصولنا الثقافية مشتركة وينابيعها واحدة. والآن، بعد أن استقلت بلادنا فأصبحت حكوماتنا مسؤولة عن التعليم، تعددت البرامج الدراسية وتباعدت، وأخشى ما أخشاه الآن أن تكون الوحدة الثقافية العربية، بعد أن كفَّت عن أن تكون واقعاً، كفَّت أيضاً عن أن تكون هدفاً! وإلا فنحن لم نعد نقرأ أو نسمع شيئاً عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «ألكسو» التي يُفترض أن نحتفل في هذه الأيام بمرور خمسة وخمسين عاماً على إنشائها.
هذه المنظمة أُنشئت لتؤدي على النطاق العربي دوراً شبيهاً بالدور الذي تؤديه منظمة «اليونيسكو» (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة) على النطاق العالمي. والفرق بينهما أن المنظمة العالمية ترعى كل الثقافات وتشجع حركة التبادل والترجمة والحوار، وتعدُّ ثقافة كل أمة ملكاً لكل البشر، فعليها أن تمكِّنها من أداء وظيفتها الوطنية لتستطيع أن تؤدي وظيفتها الإنسانية. أما المنظمة العربية فتؤدي هذا الدور لثقافة واحدة هي الثقافة العربية. ومن هنا كان هدفها الأول هو التمكين للوحدة الفكرية بين أجزاء الوطن، ورفع المستوى الثقافي العربي، ليقوم العرب بواجبهم في التواصل مع الثقافات الأخرى، والمشاركة الإيجابية في الحضارة الإنسانية.
والمنظمة العربية تشرف على عدد من المعاهد والمراكز العلمية التي تهتم بالبحث ودراسة المخطوطات، والترجمة، والتعريب. وقد بدأت المنظمة نشاطها في القاهرة، ثم انتقلت إلى تونس بعد ذلك.
ما الذي استطاعت هذه المنظمة أن تحققه في النشاط الذي أنشئت لتقوم به؟
سنظلم هذه المنظمة إذا اعتبرناها مسؤولة عن الوضع الراهن للثقافة العربية؛ لأن الثقافة العربية نشاط يؤديه كل العرب مجتمعين، ويؤديه المثقفون العرب، وتؤديه الحكومات العربية والوزارات المختصة فيها؛ لأنها تملك الطاقات والأدوات التي تمكِّنها من القيام بهذا النشاط والوصول به إلى المستوى الذي تبدأ منه المنظمة عملها، وتسعى لتنشيطه وتنميته وترقيته وتوحيده، وتحقيق التعارف والتبادل بينه وبين ثقافات العالم.
ولا شك في أن المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة قد أنجزت أعمالاً كثيرة، ولكن وحدة الثقافة العربية هدف لم يتحقق حتى الآن.

