معضلة الشعوب الأصلية في عصر الذكاء الاصطناعي
في ظل تسارع الخوارزميات وتوسع اللغة الاصطناعية، تبرز معضلة لا يمكن تجاهلها: ما هو立 الشعوب الأصلية من ثورة الذكاء الاصطناعي؟ هل هم على هامش الشيفرة أو في صميم المعادلة الأخلاقية؟
الجدل الأخلاقي حول الذكاء الاصطناعي
ليس الجدل حول الذكاء الاصطناعي مسألة تقنية بحتة، بل هو مفترق تاريخي يعيد طرح سؤال هام: من يملك حق الوجود في الفضاء الرقمي؟ ومن يحفظ للثقافات الهشة حقها في التعبير وسط هدير المعالجات الفائقة؟
التهميش الثقافي للشعوب الأصلية
تُبنى نماذج الذكاء الاصطناعي على بيانات مستخلصة من مصادر تنتمي في الغالب إلى ثقافات غربية مهيمنة، مما يؤدي إلى تهميش الشعوب الأصلية وثقافاتها الشفوية ورمزياتها المقدسة. وهذا التهميش ليس ترفاً بلاغياً، بل واقع خطير حيث تستمر النماذج التي لم تُدرَّب على فهم هذه الثقافات في إعادة إنتاج صور نمطية أو في سرقة الرموز والأساطير دون فهم أو إذن.
حماية التراث اللامادي
تُعد حماية التراث اللامادي من التهديدات الرقمية أولوية قصوى. هناك حالات كثيرة من سرقة التراث الثقافي أو تشويهه، حيث يُستنسخ التراث الروحي والثقافي للشعوب ويُستخدم في سياقات لا تعبر عن هويتها، ما يعمق من التهميش والإقصاء. لذا، فحماية بيانات الشعوب الأصلية وضمان حقوقها الرقمية يتطلبان جهوداً قانونية وأخلاقية عالمية.
مفارقة البنية التحتية الرقمية
في مفارقة موجعة، بدأت بعض شركات التقنية ببناء مراكز بيانات ضخمة في أراضٍ تنتمي تاريخياً للشعوب الأصلية. هذه الأراضي التي كانت تُقدَّس لرمزيتها أو لكونها مسرحاً للطقوس، تُسفلت الآن لتُزرع بخوادم تأكل الكهرباء والماء وتنبض بلغة لا يفهمها أبناؤها. الأرض لم تعد تُغتصب فقط… بل تُخزَّن أسباب قتلها.
نموذج التنمية المستدام
من المعروف أن مراكز البيانات هذه تُبنى في بيئات هشة بيئياً، دون استشارات مجتمعية، ودون تعويض عادل، وغالباً باسم «التنمية». ولكن: أي تنمية هذه التي تُقصي الإنسان وتستهلك ذاكرة الأرض؟ إن تداخل التطور التكنولوجي مع التحديات البيئية يعكس الحاجة إلى نموذج تنموي مستدام يعترف بحق الشعوب في حماية بيئاتها وقيمها الروحية.
مبادرات الأمل
رغم الظل الثقيل، لا تخلو الصورة من بارقة أمل. في ولايات السهول العظمى في أميركا، اجتمع شبان من قبيلة لاكوتا ليرقصوا بالأكواد. معسكر Lakota AI Code Camp، درّب شباناً من السكان الأصليين على البرمجة، وعلّمهم كيف يصنعون أدوات ذكاء اصطناعي بلغتهم، ولثقافتهم. وأما في نيوزيلندا، فقد طوّرت منظمة Te Hiku Media نموذجاً للتعرف الصوتي بلغة الماوري الأصلية، بلغ دقته أكثر من 90 في المائة.
مستقبل الشعوب الأصلية في الذكاء الاصطناعي
تُعد هذه المبادرات خطوات مهمة نحو تمكين الشعوب الأصلية، إذ توفر أدوات تكنولوجية تحمي هويتها وتتيح لها التعبير عن ذاتها بلغتها الخاصة. وفي سياق ذلك، بدأ بعض الباحثين والمنظمات يعتمدون على مفهوم «السيادة الرقمية»، الذي يتيح للشعوب ليس فقط المشاركة في تطوير التقنيات، بل أن تظل مصدراً للمعرفة، وتحتفظ بسيادتها على بياناتها ومواردها الرقمية.
مستقبل الذكاء الاصطناعي
إن الذكاء الاصطناعي ليس بالضرورة تهديداً؛ إنما هو مرآة لمن يُمسك بمقود التطوير. حين يشارك أبناء الأرض في برمجة التقنية، فإنهم لا يُجددون أدواتهم فقط، بل يُجددون تعريفهم لذاتهم، ويستعيدون الحق في «الحديث بلغتهم… حتى مع الآلة». لكن، إذا استمر الذكاء الاصطناعي في استنساخ الأنظمة القديمة للإقصاء، فإنه سيتحوّل من ثورة إلى استعمار ناعم، ومن أداة إلى سلاح.
النهاية
نحن لا نبحث فقط عن ذكاء اصطناعي «ذكي»، بل عن ذكاء أخلاقي، يعترف بأن المعرفة لا تبدأ في وادي السيليكون فقط، بل قد يلهمها نَفَسُ الشامان، أو أنشودة حُفرت على صخرة. وحين تنجح الشعوب الأصلية في كتابة الشيفرة بلغتها، فذلك ليس مجرد «مواكبة»، بل فعل مقاومة، وفعل كتابة جديدة للتاريخ، توقظ فيه ذاكرة الأرض، وتصنع مستقبلاً يُحفظ فيه الحق في الوجود، والتعبير، والهوية.

