منذ 22 شهراً، تخضع غزة للحصار، ولم يُسمح لها بالتقاط أنفاسها إلا عندما رضختِ السلطات الإسرائيلية للضغوط السياسية.
منذ بداية الحرب، أعلنت السلطات الإسرائيلية أنَّها ستفرض ما وصفه وزير الدفاع الإسرائيلي بـ«الحصار الكامل». وعلى الفور، قُطع التيار الكهربائي عن غزة، وفُرض حظر كامل على المساعدات والسلع التجارية الأساسية. وصرح مسؤولون إسرائيليون بأنَّه «لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة». وها نحن نشهد الآن الأثر التراكميَّ لشهور من العقاب الجماعي، والمتمثل في مجاعة جماعية.
من جهتي، أشارك في تنسيق الجهود الإنسانية بغزة منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وبمقدوري التأكيد على أنَّ كل ما دخل من مساعدات منقذة للحياة كان استثناءً لا قاعدة، ولم يكن ليحدث لولا الضغوط السياسية من أطراف تملك نفوذاً لدى السلطات الإسرائيلية يفوق نفوذ القانون الدولي ذاته. أما الحصار الكامل على أساسيات الحياة، فلم يطرأ عليه أي تغيير حقيقي قط.
وبعد أكثر من عام على إصدار محكمة العدل الدولية تدابير مؤقتة ضد إسرائيل، بخصوص القضية المتعلقة بتطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة ـ ورغم كل تحذيراتنا ـ لا نزال نشاهد فصول المجاعة، ونقص المياه، وأزمة في خدمات الصرف الصحي، وانهيار النظام الصحي، في خضم استمرار العنف الذي يودي يومياً بحياة عشرات الفلسطينيين، بينهم أطفال.
وبما أننا عاجزون عن تغيير هذا الواقع، لجأنا نحن العاملين في المجال الإنساني إلى استخدام أصواتنا – جنباً إلى جنب مع الصحافيين الفلسطينيين الذين يخاطرون بكل شيء – لكشف الظروف المروعة واللاإنسانية في غزة، على أمل أن يتحرك من يملكون القوة لاتخاذ الإجراءات اللازمة، خصوصاً أن هذا جزء أصيل من دورنا في تعزيز احترام القانون الدولي.
إلا أن إنجاز هذا الأمر كان له ثمن، فعلى سبيل المثال، وبعد أن عقدت مؤتمراً صحافياً في غزة، وصفت فيه كيف يُطلق الرصاص على المدنيين الجوعى في أثناء محاولتهم الوصول إلى الطعام – ما وصفته بأنه «ظروف خُلقت لتقتل» – أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي في منشور عبر منصة «إكس» أنه لن يجري تجديد تأشيرتي.
ويشكل هذا القمع جزءاً من نمط أوسع، فالمنظمات غير الحكومية الدولية تواجه متطلبات تسجيل تنطوي على قيود مزدادة، تتضمن بنوداً تحظر انتقاد إسرائيل. أما المنظمات غير الحكومية الفلسطينية، التي لا تزال تنقذ الأرواح يومياً رغم كل شيء، فقد جرى حرمانها من الموارد التي تحتاجها للعمل.
أما الوكالات التابعة للأمم المتحدة، فقد جرى إصدار تأشيرات لمدة ستة أشهر أو ثلاثة أو حتى شهر واحد فقط لها، بناءً على ما إذا كانت تُصنَّف «جيدة، أم سيئة، أم قبيحة». كما جرى استهداف «الأونروا» من خلال تشريعات، ومنع موظفيها الدوليين من الدخول، وخنق عملياتها تدريجياً.
ومع ذلك، فإن هذه الإجراءات الانتقامية لا يمكن أن تمحو الواقع الذي شهدناه – يوماً بعد يوم – في الضفة الغربية وغزة.
اليوم، يُحشر كامل سكان غزة – وعددهم 2.1 مليون نسمة – في 12 في المائة فقط من مساحة القطاع. ولا أنسى المكالمة المرعبة التي تلقيتها في 13 أكتوبر 2023، والتي أخبرتني عن التهجير القسري لكامل شمال غزة. كان ذلك بمثابة المشهد الافتتاحي لواقع لم يزِد إلا قسوة.
منذ ذلك الحين، تعرضت غالبية سكان غزة للتهجير القسري – ليس مرة واحدة، بل مرات متكررة – دون توفير مأوى كافٍ، أو طعام، أو أي قدر من الأمان. علاوة على ذلك، لا يوجد وصول منتظم إلى مياه نظيفة، بينما تنهار الخدمات الصحية. وفي الوقت ذاته، يتوافد الضحايا بأعداد ضخمة.
وكثيراً ما تعجز سيارات الإسعاف عن الوصول إلى الجرحى، لأنه سُبق استهدافها، وهي الآن تنتظر الموافقة كي تتحرك. في تلك الأثناء، تتفشى المجاعة، ويُقتل الناس وهم يحاولون الحصول على الطعام من مؤخرة الشاحنات، أو عند دخولهم مناطق عسكرية محيطة بنقاط توزيع المساعدات الأميركية – الإسرائيلية. في الواقع، هذا عدوان يومي على الحياة والكرامة.
وعلى مدار الشهور الـ22 الماضية، شاهدتُ بعيني ما يبدو كأنه تفكيك منهجي لوسائل الحياة الفلسطينية.
من ناحيتنا، ساعدنا في نقل المرضى من وحدات العناية المركزة المدمرة والمليئة بالقطط داخل مستشفيات من دون كهرباء، أو مياه، أو طعام. واكتشفنا مقابر جماعية في ساحات المستشفيات، حيث كانت العائلات تفتش في الملابس للتعرف على أحبّائها. وأعدنا جثامين عمال الإغاثة، الذين لقوا حتفهم جراء ضربات طائرات مسيرة، أو بنيران الدبابات – زملاء ماتوا في أثناء أداء مهامهم الإنسانية.
كما جمعنا جثامين أقارب موظفي المنظمات غير الحكومية الذين قُتلوا في مواقع جرى تصنيفها باعتبارها مناطق إنسانية، وانتشلنا جثث مسعفين قُتلوا وهم يرتدون زِيَّهم الرسمي، على يد القوات الإسرائيلية ودُفنوا تحت أنقاض سيارات الإسعاف المدمرة.
من جهتها، تتهمنا السلطات الإسرائيلية بالتقصير في جمع المساعدات من المعابر، لكننا غير مقصرين؛ بل نُعاقب ويجري تعطيلنا. إننا نضطر للانتظار ساعات للحصول على التصاريح، وتتعرض قوافلنا للتعطيل، وتُفرض علينا طرق غير قابلة للتنفيذ، وتُطلق النيران على الحشود البائسة. لقد جرى تفكيك نظام التوزيع الخاص بنا. خلال الهدنة، كنا نُسيّر عدة قوافل يومياً. أما الآن، فعادت الفوضى والقتل والتعطيل لتكون القاعدة.
أما في الضفة الغربية، فتختلف الاستراتيجية، لكن يبقى الهدف واحداً: تقطيع أوصال الأرض، وحصر الفلسطينيين في جيوب معزولة. وبلغ عنف المستوطنين مستويات غير مسبوقة. ولا تزال المستوطنات تتوسع، وتزداد القيود على الحركة، ويجري طرد الرعاة من أراضيهم. وتتكثف المداهمات العسكرية، حتى إن الغارات الجوية أصبحت مشهداً مألوفاً.
وقد التقينا عائلات في القدس الشرقية أُجبرت على هدم منازلها بأيديها، لتجنب الغرامات الباهظة. وتقاسمنا الطعام مع عائلات على وشك الإخلاء من البلدة القديمة في القدس، بينما ينتظر المستوطنون بالخارج. وسرنا عبر مخيمات لاجئين مزّقتها الجرافات، وقد دُمّرت فيها أنظمة المياه والصرف الصحي. والتَقينا برعاة أجبروا على ترك أراضيهم بعد هجمات عنيفة من المستوطنين.
هذه ليست حوادث فردية؛ بل جزء من سياسة للإكراه والاحتواء، تهدف إلى دفع الفلسطينيين للخروج من المنطقة «ج»، وحصرهم في جيوب حضرية معزولة تخضع لسيطرة عسكرية مزدادة.
وفي رأيها الاستشاري الأخير، خلصت محكمة العدل الدولية إلى أن نظام القيود الشاملة المفروض من قبل إسرائيل على الفلسطينيين، يشكل تمييزاً منهجياً قائماً على العرق، أو الدين، أو الأصل الإثني، في انتهاك للقانون الدولي لحقوق الإنسان. كما وجدت أن التشريعات والتدابير الإسرائيلية التي تكرّس الفصل بين المستوطنين والفلسطينيين، تنتهك المادة الثالثة من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، التي تلزم الدول القضاءَ على الفصل العنصري والتمييز العرقي.
بالتأكيد، المساعدات الإنسانية ضرورية، لكنها ليست العلاج. في غزة والضفة الغربية، تُستخدم المساعدات الإنسانية في مواجهة هذه الفظائع ستاراً للتغطية على التقاعس السياسي، وفي أسوأ الأحوال، لتمكينه.
من ناحيتها، كانت المحكمة واضحة. في تدابيرها المؤقتة الملزمة بشأن غزة، أمرت إسرائيل بمنع الأفعال المحظورة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، مثل فرض ظروف معيشية بقصد التدمير الجسدي للفلسطينيين. كما أمرت إسرائيل بتمكين تقديم الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية الضرورية بشكل عاجل، بما في ذلك زيادة عدد المعابر اللازمة لتدفق تلك المساعدات.
وفي رأي استشاري منفصل، لم تدع المحكمة مجالاً للشك: الاحتلال الإسرائيلي المستمر لغزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، غير قانوني بموجب القانون الدولي. وقد خلصت المحكمة إلى أن على إسرائيل إنهاء الاحتلال في أسرع وقت ممكن وإخلاء المستوطنات.
في الواقع، يجب أن تواجه إسرائيل عواقب حقيقية لتقاعسها، تتضمن – على أدنى تقدير – تعليق المساعدات العسكرية ونقل الأسلحة.
الحقيقة أن ما يحدث ليس معقداً، وليس حتمياً، وإنما جراء اختيارات سياسية متعمدة من أولئك الذين يصنعون هذه الظروف ومن يمكّنونهم.
المؤكد أن إنهاء الاحتلال تأخر كثيراً، خصوصاً أن مصداقية النظام الدولي متعدد الأطراف، تنهار بفعل المعايير المزدوجة والحصانة من العقاب. أما العواقب، فإنسانية بقدر ما هي سياسية. لا يمكن للقانون الدولي أن يكون أداة انتقائية للبعض، إذا كان من المفترض أن يكون أداة حماية للجميع.
وأخيراً، فإنَّ وقف إطلاق النار في غزة ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى، لكن الأمر نفسه ينطبق على تطبيق القانون الدولي بالتساوي. وكل تأخير هو يد إضافية تضغط على غزة بينما تكافح لتلتقط أنفاسها.
* رئيس مكتب الأمم المتحدة للإغاثة
وتنسيق الشؤون الإنسانية في فلسطين