يقول ابن خلدون: «إن الاجتماع للبشر ضروري، ولا بد لهم في الاجتماع من وازعٍ حاكم يرجعون إليه… وإن الإنسان بحاجة إلى سلطة ضابطة لسلوكه الاجتماعي».
والشاهد أن هذا التنظير لا يزال بارعاً وصالحاً لتفسير الواقع الاجتماعي والسياسي؛ فرغم مرور قرون كثيرة، وكثافة المراجعات والاختراقات العلمية والبحثية في مجال علم الاجتماع، فإنه يظل قادراً على النهوض مُفسراً ومُحفزاً لعمليات «الضبط الاجتماعي» في مختلف البلدان من جانب، ومرشداً للسلطة الاستراتيجية في كل مجتمع، إذا أرادت بلوغ الدرجة اللازمة للضبط، من أجل تحقيق الاستقرار والتطور، من جانب آخر.
ولكن علماء آخرين أتوا لاحقاً وحاولوا تطوير نظرية «الضبط الاجتماعي»، واستكشاف عناصره وآلياته؛ ومنهم عالم الاجتماع إدوارد روس، الذي حدد وسائل «الضبط الاجتماعي» في خمس عشرة وسيلة، وقد وضع على رأسها قاطبة «الرأي العام».
يرى روس أن «الضبط الاجتماعي» عبارة عن «نظام الأدوات التي تجعل المجتمع وأفراده متوافقين مع المعايير المقبولة للسلوك»، وقد عرفنا سابقاً أن كل مجتمع في حاجة ماسة إلى آليات واضحة لتحديد نظام الأدوات هذا، والتمكن من التأثير فيه واستخدامه، من أجل قيادة الجمهور، وسيكون «الرأي العام» في هذه الحالة وسيلة مُثلَى لتكريس مفاهيم معينة، وانتخاب مواقف وأنماط سلوك قادرة على مواكبتها والتوافق معها.
وهنا، سيضحى الإعلام رأس حربة في عملية تشكيل «الرأي العام»؛ حيث سيقوم بهذا الدور من خلال عدد من العمليات الرئيسة؛ مثل تشكيل إطار القضايا التي يجب أن يهتم بها المجتمع، ثم ترتيبها في أولويات، وصولاً إلى تأويلها على نحو يخدم أهداف السلطة الاستراتيجية ورؤيتها، وقبل هذا كله سيكون لزاماً عليه تدقيق ما هو نافع وما هو مُضر، وتحقيق ما هو إيجابي وما هو سلبي، وفرز ما هو صادق عما هو كاذب.
لقد كانت هذه المهمة سهلة وميسورة في العصور التي خَلَت؛ إذ كان من السهل جداً التحكم في فضاء «الرأي العام» الخاص بكل مجتمع من المجتمعات إلى درجة كبيرة، عبر تفعيل آليات السيادة على المجال الإعلامي، والتحكم في الرسائل التي تصل إلى أفراد الجمهور؛ بل وتأويلها على النحو الذي يخدم أهداف السلطة الرامية إلى إحداث عملية «الضبط الاجتماعي».
ولكن المجال الإعلامي تغيَّر تغيراً فارقاً مع فورة تكنولوجيا الاتصال، وظهور شبكة «الإنترنت» بتجلياتها المُذهلة، ومعها طوفان وسائل «التواصل الاجتماعي»، وممكنات الذكاء الاصطناعي المُستحدثة.
وأدت هذه التطورات المتسارعة، وغير القابلة للتحكم في معظم الأحيان، إلى تضعضع قدرة الدولة الوطنية على ضبط المجال الاتصالي، ومن ثمَّ فقدان القدر الأكبر من السيطرة على أداة «الضبط الاجتماعي» الأولى… أي «الرأي العام».
وقد انقسم العالم في هذا الصدد إلى قسمين رئيسين: أولهما رأى ضرورةً في عزل المجتمع عن المؤثرات غير القابلة للسيطرة، وهنا ظهرت فكرة «الإنترنت السيادي»، أو «العزلة الرقمية» التي تجسدت في جدران تكنولوجية وإجراءات قانونية استهدفت عزل المجال الوطني عن المؤثرات الخارجية اتصالياً؛ كما حدث في دول مثل: الصين وكوريا الشمالية بشكل كلي، وروسيا وإيران بشكل جزئي. أما القسم الثاني، فقد ضم الدول التي وجدت صعوبة بالغة في بناء «العزلة الرقمية» لاعتبارات سياسية وحقوقية واقتصادية مُهمة؛ وعوضاً عن ذلك فإنها لجأت إلى دخول المعترك بأدواته نفسها، فراحت تستخدم وسائط الإعلام المختلفة في محاولة تشكيل إطار القضايا المناسب لها، ثم ترتيب أولوياتها للجمهور، قبل العمل على تأويلها على النحو الذي يخدم أهدافها.
وفي هذا القسم الثاني، ستقع معظم دول العالم «الحُر» في أوروبا وأميركا الشمالية، ومعها أيضاً دول من مختلف قارات العالم؛ ومنها الدول العربية؛ حيث أظهرت السلطات في هذه المجتمعات كلها اهتماماً كبيراً بإحداث «الضبط الاجتماعي» المطلوب، عبر التفاعل «المُنفتح»، ومن خلال بث رسائلها المُختارة، والإلحاح عليها بشتى الوسائل.
ولما كانت أهداف تلك الدول مختلفة، ومصالحها مُتضاربة، ونطاق رسائلها مُتاحاً لكثير من الفاعلين، فقد تحول الوسط الاتصالي الذي تنشط فيه إلى مجال مفتوح للرسائل المُتناقضة، والتأويلات المُتنافسة.
وهنا، سيغرق الجمهور في سيل متدفق من السرديات المُتضاربة والمحتوى المُتباين، ولن يكون في وسعه الركون إلى معنى واضح، أو سردية مُتفق عليها، أو «حقيقة»؛ لأن أدوات التزييف، والتأويل المغرض، ستتكاتف لإغراقه في بحر من الأكاذيب والتضليل.
ولذلك، فإن أفراد الجمهور أضحوا غير قادرين، وسط طوفان السرديات المُتضاربة هذا، على التماس «حقيقة» واحدة، أو تحقق من صحة خبر مُفرد، أو توافق على معنى مُحدد للمصلحة العامة.
إنه عالم كامل من التزييف والسرديات المُتضاربة، تزداد المعلومات فيه، وتغيب الحقائق… ويبقى الجمهور تائهاً، من دون يقين، أو بصيرة.

