مع انحسار ظل الاستعمار عن أراضٍ شاسعة في آسيا وأفريقيا، وُلد تخصص جديد في أروقة الجامعات ومؤسسات العالم الكبرى: “اقتصاديات التنمية”. كان العالم منقسمًا، وكانت الدول الجديدة ساحة صراع بين القوى العظمى، وكان السؤال المطروح بحدة: كيف لهذه الأمم الوليدة أن تلحق بركب الحضارة؟
في البداية، ساد التفاؤل. نظرت مدرسة “التحديث” إلى التاريخ كطريق واحد مستقيم، سارت عليه دول الغرب من قبل، وما على دول “العالم الثالث” إلا أن تتبع خطاها. كان الأمر يبدو بسيطًا: تخلصوا من تقاليدكم البالية، ارفعوا معدلات الادخار، استوردوا التكنولوجيا، وستصلون. وقدّم مؤرخ اقتصادي أمريكي يُدعى والت روستو خريطة لهذا الطريق، مقسمة إلى خمس مراحل واضحة، تبدأ بالمجتمع التقليدي وتنتهي بعصر الاستهلاك الجماهيري الوفير.
وسرعان ما ارتدى هذا التفاؤل ثوبًا رياضيًا أنيقًا على يد رجلين، سولو وسوان، اللذين صاغا نموذجًا للنمو أصبح حجر الزاوية في الاقتصاد الحديث. قال نموذجهما إن تراكم رأس المال وحده لا يكفي لتحقيق نمو دائم، فكل آلة جديدة تضيفها إلى مصنعك ستكون فائدتها أقل من سابقتها. إنها لعنة “تناقص العوائد”. أما سر النمو المستدام، فيكمن في شيء آخر، شيء غامض أسموه “التقدم التكنولوجي”، وتركوه خارج معادلاتهم كسر إلهي لا يُعرف مصدره. لكن هذا النموذج حمل في طياته نبوءة عظيمة: “التقارب”. فالبلدان الفقيرة، لأنها تملك القليل من رأس المال، يجب أن تنمو أسرع من البلدان الغنية، وفي النهاية، سيلحق الفقير بالغني في عالم يسوده الرخاء.
لكن السنوات مرت، والنبوءة لم تتحقق. ظلت دول كثيرة تراوح مكانها، بل إن الفجوة بينها وبين الأغنياء كانت تتسع. كان نموذج سولو-سوان، بكل أناقته الرياضية، أشبه بساعة جميلة لا تخبرنا لماذا يتأخر الوقت في بعض الأماكن ويتسارع في أخرى. لقد أصبح “مقياسًا لجهلنا”، تاركًا السؤال الأهم معلقًا في الهواء: من أين يأتي هذا التقدم التكنولوجي السحري؟ ولماذا تهبه الآلهة لأقوام وتحرمه عن آخرين؟
ومن قلب خيبة الأمل هذه، انطلقت صرخة احتجاج مدوية من الجنوب، من أمريكا اللاتينية. قال أصحاب نظرية “التبعية” إن التخلف ليس مرحلة عابرة، بل هو قدر محتوم، وهوية فرضها النظام الرأسمالي العالمي. فالعالم، في نظرهم، مقسوم إلى “مركز” مهيمن و”أطراف” مُستَغَلة. لقد أعاد الاستعمار هيكلة اقتصادات الأطراف لتصبح مجرد مزارع ومناجم تنتج المواد الخام الرخيصة للمركز، الذي يعيد بيعها لها كسلع مصنعة بأسعار باهظة. التنمية والتخلف، كما قال أندريه غوندر فرانك، هما “وجهان لعملة واحدة”؛ فالثروة التي تراكمت في الغرب هي نفسها التي انتُزعت من بقية العالم.
ثم جاء إيمانويل والرشتاين ليضيف تفصيلاً جديدًا لهذه الخريطة القاتمة، فقسم العالم إلى ثلاث طبقات: “المركز” الذي يسيطر على التكنولوجيا ورأس المال، و”الأطراف” التي تقدم المواد الخام والعمالة الرخيصة، وبينهم منطقة رمادية هي “شبه الأطراف”، التي تُستَغَل وتستغِل في آن واحد، وتعمل كصمام أمان يمنع انفجار النظام بأكمله.
كانت الوصفة الطبية التي قدمها هؤلاء المنظرون هي الانعتاق. دعوا إلى قطع حبال التبعية، وإلى سياسة “التصنيع لاستبدال الواردات”، حيث تغلق الدولة أبوابها أمام السلع الأجنبية لتحمي صناعاتها الوليدة. لكن هذه الاستراتيجية فشلت هي الأخرى في معظم الأماكن، فالسوق المحلية أضيق من أن تستوعب هذا الإنتاج، والشركات المحمية أصابها الترهل والفساد.
وبحلول الثمانينيات، مع أزمات الديون التي عصفت بالعالم النامي، عاد البندول ليتأرجح بقوة في الاتجاه المعاكس. انطلقت “الثورة النيوكلاسيكية المضادة”، التي حملت لواءها مارغريت تاتشر ورونالد ريغان، وأعادت الإيمان القديم بسحر السوق. قالت هذه الثورة إن التخلف ليس سببه الاستغلال الخارجي، بل هو نتيجة للتدخل الحكومي المفرط والأسعار المشوهة في الداخل. الحل، كما روج له “إجماع واشنطن” عبر صندوق النقد والبنك الدوليين، يكمن في الخصخصة، وتحرير التجارة، وفتح الأبواب أمام رأس المال الأجنبي. أطلقوا العنان “للوحش الرأسمالي”، كما يقولون، ودعوا “اليد الخفية” تعمل عملها.
لكن النقاد سارعوا بالقول إن “النمور الآسيوية”، التي قُدمت كدليل على نجاح هذا النهج، لم تكن يومًا مثالاً للسوق الحرة، بل كانت “دولاً تنموية” قادت فيها حكومات استبدادية عملية التصنيع بقبضة من حديد. وهكذا، انتهى القرن العشرون كما بدأ، بنقاش حاد حول دور الدولة والسوق، وبسؤال أكبر يلوح في الأفق: هل هناك أسباب أعمق، جذور أقدم، تحدد مصائر الأمم؟