تتار القرم: تاريخ حافل بالتحديات والصمود
التاريخ المبكر
تتار القرم هم السكان الأصليون لشبه جزيرة القرم، وهم شعب تركي من أوروبا الشرقية تشكّل تاريخياً في شبه الجزيرة، لكنه تعرض لتحولات كبرى على مدى قرون أسفرت عن تحول سكان المنطقة الأصليين إلى أقلية في موطنهم. وعندما سيطرت موسكو على المنطقة عام 2014 وضمتها الاتحاد الروسي كان تتار القرم يمثلون 20 في المائة فقط من سكان شبه الجزيرة.
خانية القرم
كانت خانية القرم التي أُسست في القرن الخامس عشر دولة متعددة القوميات والمذاهب، عاش فيها: تتار القرم، واليهود القراؤون، والكريمشاك، والأوروم (أحفاد الهيلينيين)، وأحفاد القوط، والأرمن، وشينجن القرم (أو الأورمانشيلي). ونشأ في تلك الفترة نظام فريد من التوازن والتوافق والتسامح، أسهم في نشوء مجتمع قرمي مميز. واستندت السياسة الدينية والعرقية لخانية القرم إلى مبادئ الإسلام.
ازدهار الثقافة
ايضاً شهد عصر خانية القرم ازدهاراً في ثقافة تتار القرم وفنونهم وأدبهم. وكان عاشق عمر الشاعر الكلاسيكي في شعر تتار القرم في ذلك العصر. أما أهم معلم معماري باقٍ من ذلك العصر فهو قصر الخان في باختشيساراي (عاصمة القرم في العصور الوسطى).
الإمبراطورية الروسية
طوال القرن الثامن عشر، أصبحت خانية القرم «ورقة مساومة» في اللعبة الجيوسياسية الشرسة بين تركيا وروسيا، وفي نهاية القرن وقعت في منطقة النفوذ الروسي. وعام 1783، نتيجة انتصار روسيا على الإمبراطورية العثمانية، احتلت روسيا القرم أولاً ثم ضمتها إليها. وشكّل هذا بداية حقبة سوداء في تاريخ تتار القرم.
الضم الروسي
وحقاً، شكلت حرب القرم انتهاكاً مباشراً لمعاهدة كوتشوك كاينارجا للسلام. رافق ضم القرم انتهاكات عديدة لحقوق وحريات السكان المحليين. كما وقع تقويض الدولة المستقلة لتتار القرم بقيادة شاجين جيراي.
أثر الاحتلال
تحول ضم الإمبراطورة الروسية كاترين الثانية لشبه الجزيرة إلى كارثة على السكان المحليين التتار؛ إذ طُردوا من أراضيهم التي صودرت، بما فيها أراضٍ كانت تحت تصرف المساجد. بل، وحوّل الروس مزارعي القرم الأحرار إلى أقنان، وهو ما أجبر مئات الآلاف من تتار القرم على الفرار واللجوء إلى الإمبراطورية العثمانية. «الحرب الثقافية» شُنت على تتار القرم بأمر من السلطات الإمبراطورية، فهُدمت المساجد والمقابر القديمة. وهكذا باتوا للمرة الأولى أقلية في وطنهم، وحل مكانهم المستوطنون الروس والأوكرانيون.
الحرب الأهلية
مع حلول بداية القرن العشرين كانت للحرب الأهلية في روسيا عواقب وخيمة على تتار القرم. فعام 1917، بعد «ثورة فبراير» انعقد أول كورولتاي (مؤتمر) لشعب تتار القرم، وأعلن مسار إنشاء جمهورية القرم الشعبية المستقلة متعددة الجنسيات. يومذاك قاد العملية نعمان جليبيدجيان، وهو سياسي وشخصية عامة وعضو في لجنة صياغة دستور جمهورية القرم الشعبية.
التأسيس والإنقاذ
ومن ثم أقرّ مجلس النواب (الكورولتاي) مشروع الدستور الذي قدمته اللجنة، وأعلن تأسيس جمهورية القرم الشعبية، دافع نعمان جليبيدجيان عن المساواة بين جميع سكان شبه جزيرة القرم. وكتب: «مهمتنا هي بناء دولة مثل سويسرا. شعوب القرم باقة رائعة، وكل شعب يحتاج إلى حقوق وظروف متساوية، لأننا يجب أن نسير جنباً إلى جنب».
الترحيل
لكن «ثورة أكتوبر» في روسيا وصعود البلاشفة – الذين لم يعترفوا بحكومة تتار القرم – إلى السلطة، قوضا وجود جمهورية القرم الشعبية الناشئة. ويوم 26 يناير (كانون الثاني) 1918، بدأت وحدات البلاشفة المسلحة من سيفاستوبول عمليات عسكرية نشطة. أُطيح خلالها بحكومة تتار القرم، وانتهت بإعدام جليبيدجيان، ورمي جثته في البحر الأسود.
العودة
ولكن عام 1921، أسست جمهورية القرم السوفياتية الذاتية الحكم كجزء من جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية. وكانت اللغتان الرسميتان فيها هما الروسية وتتار القرم، وتألفت القيادة العليا بشكل رئيسي من تتار القرم. ولكن فترة الانتعاش القصيرة للحياة الوطنية، قمعها الزعيم البلشفي جوزيف ستالين عام 1937. ووفقاً لتعداد عام 1939، بلغ عدد تتار القرم في شبه جزيرة القرم 220 ألف نسمة نسمة، أي ما يعادل 20 في المائة فقط من إجمالي سكان شبه الجزيرة.
الترحيل القسري
عام 1944، وبقرار من القيادة السوفياتية، تعرّض تتار القرم لترحيل عنيف وشامل من وطنهم التاريخي، وأُرسلوا إلى مناطق سوفياتية في آسيا الوسطى وسيبيريا وجبال الأورال. وكانت التهمة الموجهة لهم هي «التعاون مع نظام الاحتلال الألماني النازي» إبان الحرب العالمية الثانية. ووفقاً للبيانات الرسمية، رُحّل 193,865 فرداً من تتار القرم في تلك الحملة.
الاعتراف بالترحيل
أيضاً، لأكثر من 50 سنة، حُذف اسم «تتار القرم» من الاستخدام العلمي والقانوني. وغُيرت جميع أسماء المواقع الجغرافية التي تشير إلى صلتها بتتار القرم، وفرضت حظراً على دراسة اللغة التتارية، وتطوير التقاليد الثقافية والوطنية.
الاعتراف والعودة
لكن، عام 1989، أقرّ المجلس الأعلى لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية بأن الترحيل «غير قانوني». وكان ذلك أول اعتراف رسمي بعد عقود من الاحتجاز القسري لتتار القرم في المنفى، سبق ذلك تاريخ طويل من النشاط السري المحاط بالمخاطر.
العودة إلى شبه الجزيرة
وابتداءً من عام 1967، بدأت أولى عائلات تتار القرم بالعودة إلى شبه الجزيرة في عمليات بطيئة وغير متسقة. وبين عامي1967 و1977، لم تستقر سوى 577 عائلة فيها.
العودة المستمرة
بعدها بين تعدادي 1979و1989، زيادة عدد تتار القرم في شبه الجزيرة بمقدار 33 ألف نسمة وخلال 1989 عاد نحو 30 ألف شخص إضافي، وعموماً بلغت عمليات العودة إلى الوطن ذروتها في عامي 1990 و1991، عندما انتقلت نواة تتار القرم العرقية، التي كانت موزعة في أرجاء الاتحاد السوفياتي إلى شبه الجزيرة. وبحلول نهاية عام 1991 تجاوز العدد 150 ألفاً، وبات هؤلاء تلقائياً مع تفكك الدولة السوفياتية مواطنيين أوكرانيين.
الوضع الحالي
ولقد كان الإرث التاريخي الثقيل في العلاقة مع روسيا أحد أسباب اصطفاف تتار القرم إلى جانب حكومة أوكرانيا ضد ما عدوه «غزواً روسياً جديداً» لوطنهم التاريخي عام 2014.

