أين ذهب أولئك الذين ربّونا؟ أين هم “ناس زمان”؟ أبحث عنهم فلا أجد سوى أطيافهم تلوح في ذاكرتي.
أبحث عن أخلاقهم، عن بيوتهم المفتوحة، عن قلوبهم العامرة بالمحبة، فلا أجد إلا جدرانًا مهجورة تتكئ على الحنين، وأزمنةً تودّ لو تعود.
البيوت القديمة تهدّمت أو أُغلقت، كما لو أن الزمن طوى صفحة من أجمل صفحاتنا.
كانت البيوت آنذاك مفتوحة على بعضها، الجيران عائلة واحدة، والقلوب متآلفة رغم قسوة الظروف.
لم تكن هناك كراهية أو طمع، بل سادت المحبة والستر والرضا، أما اليوم، فكل شيء تغيّر.
نعيش زمنًا مختلفًا تمامًا؛ حيث تسللت إلينا سلوكيات غريبة، ومعتقدات دخيلة، وظواهر مستحدثة لم تكن يومًا من نسيج المجتمع المصري الأصيل.
أصبحنا نرى الحقد بدل الحب، والعنف بدل الرحمة، والتراشق بدل التراحم.
طفا على السطح رموز مثل “شهاب” سائق التوك توك من أرض الجمعية، و”طفل العسلية” من المحلة الكبرى، و”هدير عبدالرازق” وغيرها من الأسماء التي وجدت طريقها إلى الشهرة لا لتميزٍ حقيقي، بل لصخبٍ مبتذل بات للأسف يعكس بعض ملامح السلوك المجتمعي المنفلت.
في مواجهة هذا الواقع، وجدت نفسي مدفوعًا إلى رحلة مختلفة، حملت ذاكرتي وانطلقت صوب الإمام الشافعي والفسطاط، أزور أضرحة الصحابة والأئمة والعلماء.
هناك، حيث يرقد عمرو بن العاص، وعقبة بن عامر، والسيدة فاطمة الأنور شقيقة السيدة نفيسة، والإمام الليث بن سعد، شعرت بأن تراب هذا الوطن لا يزال نقيًا، وأن جذوره ثابتة في أرض العلم والدين والحضارة.
هذا الوطن لا يستحق أن يُختزل في مشاهد مبتذلة أو رموز سطحية لا تمثل روحه.
مصر الحقيقية لا تزال حية في الأزهر، وفي المساجد، وفي شوارع الخليفة، وفي بيوتٍ وإن هُجرت، ما زالت تحكي عن شهامة وكرم وعزوة.
لذا، فإن ما نحتاجه اليوم ليس مجرد خطاب، بل صحوة حقيقية تبدأ من الأسرة وتصل إلى الدولة.
خطة يتكاتف فيها الأزهر والكنيسة، التعليم والإعلام، المجتمع المدني والأحزاب، لاستعادة أخلاقنا، وتربية أبنائنا على القيم الأصيلة، وإعادة الاحترام إلى موقعه الطبيعي.
علينا معالجة ظواهر العنف والانحلال من الجذور، لا من مظاهرها فقط،علينا أن نحمي أبناءنا من التفاهة المستوردة التي تهدم وعيهم وتشوّه انتماءهم.
مصر، التي أنجبت الأئمة والمصلحين والمفكرين، لا يمكن أن يُمثّلها من يصرخ في “لايف” أو يرقص على أنقاض القيم.
إنها دعوة للعودة إلى “البيت القديم”، ليس بمعماره، بل بروحه، دعوة لإعادة بناء الإنسان المصري كما كان: محبًا، نقيًا، مخلصًا، وعزيز النفس.