“ارفع رأسك يا أخي، فقد مضى عهد الاستعباد”… بهذه الكلمات، أعلن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ميلاد الجمهورية المصرية، بعد عقود من الاحتلال والاستبداد والتبعية. لكن، كما هي عادة الثورات الكبرى، سرعان ما تحوّلت منجزاتها إلى ساحة جدل، وتشويه، ومحاولات منظمة لسحب شرعيتها التاريخية، خاصة من قبل من رأوا في يوليو نهاية امتيازاتهم، وبداية سقوط مشروعهم النخبوي المرتبط بالخارج.
ثورة 23 يوليو 1952، لم تكن مجرد “حركة ضباط أحرار”، بل جاءت استجابة عميقة لأزمة بنيوية كانت تعصف بمصر منذ نهاية القرن التاسع عشر: احتلال بريطاني مباشر منذ 1882، نظام ملكي تابع، نخبة أرستقراطية منعزلة عن شعب مسحوق، وجيش مقيد الإرادة ومخترق القرار.
من يراجع وثائق تلك المرحلة، يدرك أن الضباط الأحرار لم يأتوا من فراغ. هزيمة 1948 أمام إسرائيل، والفساد العلني داخل القصر الملكي، وبيع الأسلحة الفاسدة للجنود، كانت كلها صواعق فجّرت الغضب الكامن. وعندما تحركت الدبّابات ليلة 23 يوليو، لم تتحرك فقط باسم الجيش، بل باسم أمة كانت تبحث عن الخلاص.
غير أن ما يحدث اليوم هو محاولة لإعادة كتابة التاريخ بأقلام خصوم الثورة. فبدلًا من الحديث عن استرداد مصر لقرارها الوطني، أو بناء قاعدة صناعية، أو دعم حركات التحرر في إفريقيا والعالم العربي، يتم التركيز على “أخطاء” أو “إخفاقات”، في سياق انتقائي سطحي، لا يراعي السياق السياسي والسياق التاريخي ولا حجم التحديات التي واجهت الدولة الوليدة.
ومن أبرز النقاط التي يُستخدم فيها التشويه، ملف السودان. تُتهم ثورة يوليو بأنها “فرّطت” في السودان، بينما الحقائق التاريخية تؤكد أن الانفصال كان نتيجة تراكمات سابقة للثورة. فمصر منذ اتفاق الحكم الثنائي عام 1899، لم تكن صاحبة سيادة حقيقية على السودان، بل كانت شريكًا شكليًا تحت الاحتلال البريطاني. الاتفاقية نفسها كانت توقع بأوامر لندن وتُنشر بمراسيم مصرية لا تملك من الأمر شيئًا.
السودان، منذ اغتيال السير لي ستاك عام 1924، كان في طريقه للانفصال التام عن مصر. الإنذارات البريطانية كانت واضحة: انسحاب الجيش المصري، ورفض أي نص دستوري يربط السودان بمصر. بل إن رئيس الوزراء مصطفى النحاس نفسه، في 1951، أقرّ بحق السودان في دستور منفصل، قبل عام كامل من قيام الثورة. فهل يُعقل أن يُحمّل الضباط الأحرار مسؤولية انفصال تم التخطيط له وتنفيذه في عهد الملكية وتحت الاحتلال البريطاني؟
يبدو أن هناك من يريد أن يحاسب الثورة على إخفاقات سابقيها، وأن يتجاهل عمدًا أنها جاءت لإصلاح ما أفسده عهد كامل من التبعية والانبطاح. ولو طبقنا هذا المنهج المجتزأ على الثورات الأخرى، لكان علينا أن نُدين الثورة الفرنسية لأنها تسببت في اضطرابات اجتماعية، أو نرفض الاستقلال الهندي لأنه لم يحقق النمو الفوري.
بل الأغرب من ذلك، أن دعاة العودة إلى الملكية، لا يقدمون أي تصور عقلاني لحكمها، سوى اجترار النوستالجيا المزيفة. فهل نعود إلى نظام كان الملك فيه يتقاضى راتبًا يفوق ميزانية وزارة التعليم؟ هل نعيد مجتمع الامتيازات الطبقية، و”الصفوة” التي تعيش في القصور بينما تسكن الأغلبية في أقل ما يوصف أنها عشوائيات؟
ثورة يوليو لا تُقاس بما حققته فقط، بل بما واجهته. كانت الدولة المصرية آنذاك بلا صناعة حقيقية، ولا تعليم متماسك، ولا مؤسسات مستقلة. ورغم ذلك، استطاعت الثورة أن تؤسس لأول مرة مشروعًا تنمويًا شاملًا، وأن تبني قاعدة صناعية ثقيلة، وأن تؤمم قناة السويس في وجه القوى الكبرى، وأن تواجه العدوان الثلاثي، وتقف داعمة لكل حركات التحرر من الجزائر إلى الكونغو إلى اليمن.
نعم، أخطأت الثورة في بعض المراحل، وحدث انحراف في بعض المسارات، لكن لا يجوز أن تتحوّل تلك الأخطاء إلى أداة لشيطنة ثورة كان هدفها بناء دولة قوية مستقلة تقود المنطقة، لا أن تكون أداة في يد الأجنبي.
والسؤال الحقيقي اليوم: من يكتب التاريخ؟ هل نتركه لمن رأى في يوليو تهديدًا لنفوذه؟ لمن تحطمت آماله ومشاريعه على يد المصريين؟ لمن خسر امتيازاته ونفوذه الطبقي؟ أم نرويه نحن، أبناء الشعب الذي وقف خلف الثورة، وتحمل تكلفة التحول؟
ثورة يوليو ليست فوق النقد، لكنها فوق التزوير. هي لحظة كاشفة في تاريخ مصر الحديث، انتقل فيها الشعب من خانة “الرعايا” إلى “المواطنين”، ومن حكم الفرد إلى مشروع الدولة الوطنية. ومن العار أن يُترك هذا الإنجاز للتشويه على ألسنة من لم يقرأوا سوى نصف التاريخ.
التاريخ لا يُكتب بمنشورات على منصات التواصل، بل يُفهم في سياقه، بأدوات التحليل العميق، وربط الماضي بالحاضر. ومعركة الوعي التي نخوضها اليوم ليست فقط للدفاع عن يوليو، بل لحماية حق الأمة في امتلاك سرديتها.

