لطالما تساءلت عن أسباب تباين أحكام القضاء لحالات متشابهة من المتهمين، حتى قرأت دراسة مثيرة كشفت حقيقة تفاوت الأحكام الجنائية للجريمة نفسها في الولايات المتحدة. إذ تتراوح مدة السجن بين بضعة أشهر إلى عشر سنوات للجريمة نفسها. ولوحظ أيضاً أن القضاة تتغير قراراتهم بشأن أوامر التفتيش تبعاً لتوقيت اتخاذ القرار، صباحاً أو مساءً.
وحدثت مفارقة أخرى في مكان آخر وهي أن نسبة «قبول» طلب إطلاق سراح المسجونين كانت 65 في المائة بعد تناول القضاء لوجبة الغداء، و10 في المائة فقط قبل تناولها، الأمر الذي يشير إلى أن أحكام البشر وقراراتهم تتأثر بالجوع والإرهاق أو المزاج.
وتبين أن شعورنا تجاه اضطراب آراء بعض الأطباء له أساس من الصحة، فهناك بالفعل أطباء يصفون علاجين مختلفين للمريض نفسه، ويغير أكثر من 20 في المائة من الأطباء تشخيصهم عند مراجعة صور الأشعة بعد مضي بضعة أشهر.
جاء ذلك في الكتاب الماتع «الضجيج Noise: عيب في الحكم البشري» للباحث دانيل كانيمان وزملائه؛ حيث كشف أن هناك ضجيجاً «مؤقتاً» يشوش على أحكامنا لكوننا بشراً، وآخر «موسمياً». ومنه مثلاً عندما نستطلع آراء مجموعة من المختصين على انفراد فنخرج بآراء موضوعية أكثر من سؤالهم مجتمعين؛ لأن طبيعة البشر تجعلهم عرضة للتأثر بمن حولهم.
وفرق الكتاب بين «الضجيج» و«الانحياز». فالأول «تباين غير مرغوب في أحكامنا» وفي قراراتنا عند التعامل مع الحالة نفسها، ويمكن تقليصه بالوعي بوجود «ضجيج». منه مثلاً وضع استبانة أسئلة ثابتة عن التوظيف أو معايير محددة لاتخاذ القرار أو تقييم عمل ما. أما الانحياز فهو ضجيج لكنه غير مرئي عادة ويصعب قياسه.
وربما أشهر الحالات التي تعاني من الضجيج في قراراتنا هي مقابلات التوظيف. فكنت أرى بنفسي كيف تتقلب قرارات أعضاء لجان التعيينات وفقاً لحالتهم المزاجية. فأحياناً يحمل «مزاجهم» أسئلة قاسية مقصودة لا يتعرض لها مرشح آخر.
الباحثون يقولون إن مجموعة من المرشحين قد دخلوا 3 مقابلات وظيفية فكانت قرارات من قابلوهم مختلفة تماماً في كل مقابلة! وهنا منشأ الإحباط والحيرة اللذين ينتابان من يعرف أهلية المتقدم للوظيفة، ثم سرعان ما يُصدم من قرار اللجنة المتسرع الذي لم يمنح الموهوب فرصة كافية، أو عدالة في طرح الأسئلة، وهذا أحد أسباب خسران خيرة كوادرنا.
في قطاع التأمين، تخسر الشركات ملايين الدولارات سنوياً بسبب تباين قرارات أو اجتهادات فردية للأفراد حينما يقيمون خدمة التأمين على الحياة؛ لأن هناك هامشاً كبيراً من التقدير البشري.
ولذلك يكمن الحل في تطبيق ما يسميه العلماء «تدقيق الضوضاء» audit noise في قراراتنا، وهي محاولة تجنب اتخاذ قرارات تتأثر بالحالة المزاجية، أو عدم جمع معلومات كافية، أو توجيه السؤال لغير المختصين، أو المبالغة في الاستناد على «الحدس» قبل استيفاء شروط إطلاق الأحكام على الناس أو اتخاذ قرارات موضوعية بعيداً عن تأثير الضوضاء.

