أضحي الدفاع عن الأوطان اليوم واجبًا يشمل كل ميدان من ميادين الوعي والإدراك، فمعارك العصر الحالي أضحت تخاض بالكلمة، والصورة، والشائعة، والخبر الموجه، والمعلومة المضللة، فهي حروب تستهدف العقول وتعمل على تثبيط المعنويات وبث الفرقة وزرع الشكوك في عمق الانتماء الوطني، فحماية الوطن أضحت مهمة كل مواطن بحسب موقعه، وكل فرد مطالب بأن يكون حارسًا يقظًا على بوابة عقله ووعيه، وسدًا منيعًا في وجه كل محاولة لاختراق إدراكه أو إرباك رؤيته أو زعزعة ثقته بدولته ومؤسساته.
ولم تعد التنظيمات الإرهابية الآن مجرد خلايا سرية تتحرك على الأرض، ولكن تحولت إلى شبكات معقدة عابرة للحدود، تتغذى على الفوضى المعرفية وتعمل وفق أجندات إعلامية مضللة، توظف وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي أدوات لبث السموم الفكرية وتشويه الحقائق، وزعزعة الثقة في مؤسسات الدولة، وفي هذا الاطار لم يكن تنظيم حسم الإرهابي سوى تجل واضح لهذا النمط الجديد من الإرهاب، الذي يجمع بين العنف المسلح والتلاعب بالوعي، ولقد مثل هذا التنظيم نموذجًا فجا لجماعات تتغذى على ضعف الإدراك العام، وتستثمر في الفوضى النفسية.
وقد استهدفت هذه الجماعة العمق الوطني المصري، عبر ممارسات جبانة تعتمد على الاختباء خلف المدنيين، واستهداف رجال الشرطة البواسل، الذين وقفوا ويقفون دومًا حماة للوطن، وجدارًا صلبًا في وجه كل من أراد العبث بأمن البلاد واستقرارها، غير أن هذه الضربات الأمنية لم تكن وحدها كفيلة بإضعاف هذا التنظيم، بل كان الوعي الشعبي هو الحصن الأقوى، فخطاب الحركة سرعان ما انكشف، وادعاءاتها سقطت أمام وعي الجماهير، وبنيتها النفسية غير السوية ظهرت جليًا حين فشلت في التسلل إلى وجدان الناس، ولولا صلابة الدولة المصرية، وتماسك جبهتها الداخلية، ووعي مواطنيها الذين باتوا أكثر قدرة على التمييز بين الحقيقة والزيف، لكان لهذه المحاولات آثار لا تحمد عقباها.
فالعقل الذي لا يتحصن بأدوات الفهم، ولا يتسلح بملكة الفرز والتحقق، سرعان ما يتحول إلى معبر هش يسهل اختراقه، فالشائعات لا تجد موطئ قدم في مجتمع يمتلك ثقافة التثبت، ولا تتكاثر في بيئة يتقن أفرادها القراءة النقدية للمحتوى، ويملكون عقلًا يقظًا يفرق بين المعلومة الموثوقة والدعاية المسمومة، وبين الخبر والتلاعب بالعقول، كما أن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في وجود التنظيمات المتطرفة، فهذه بطبيعتها تولد لتهزم، ولكنه يكمن في أن تجد بيئة قابلة للاختراق، وعقولًا خاوية من الوعي، أو نفوسًا مشحونة بالغضب، أو وعيًا ضعيفًا يتأثر بسرعة دون تفكير، هنا تتسع دائرة المسؤولية في حماية الوطن لتصبح مسؤولية مجتمعية شاملة، فالمؤسسات التربوية، والأسرة، والإعلام، والمنابر الثقافية والدينية، جميعها تقع في قلب المعركة.
وحين تخرج إشاعة وتجد صدى واسعًا على منصات التواصل، وتنتشر الأكاذيب حول مؤسسات الدولة أو حول قضايا مصيرية دون تمحيص أو مراجعة، فإن ذلك يعبر عن خلل معرفي، ويكشف عن أزمة ثقة يمكن أن تتحول مع الزمن إلى تهديد وجودي، فالحروب الحديثة أصبحت تخاض بـالهاشتاغ، وبالتشكيك في النوايا، وبالتلاعب بالصور، وتضخيم الأخطاء، والتقليل النجاحات، وإضعاف رمزية الدولة في أذهان الناس، فالحماية الحقيقية تبدأ من العقل، والتربية على الوعي النقدي الجمعي وعلى أسس الحقيقة والمسؤولية والانتماء الأصيل، مما يؤهل الفرد ليكون شريكًا في حماية وطنه لا ضحية في معارك الإدراك الخادعة.
ويتجلى الاصطفاف الواعي في وقوف متبصر إلى جوار الدولة مبني على قراءة واعية للتهديدات، وإيمان عميق بأن بقاء الوطن واستقراره مسؤولية مشتركة يتقاسمها الجميع، فكل فرد في موقعه، جندي في معركة الوعي، فالكلمة موقف والصمت أحيانًا خيانة والتغافل عن الخطر المعرفي تواطؤ غير معلن، فالأوطان تحمى حين يستعيد المواطن مسؤوليته الأخلاقية، ويصون وعيه من العبث، ويقف على خط النار المعنوي الذي لا يقل خطورة عن جبهات القتال.
وتنبع أهمية الاصطفاف الوطني الواعي خلف الدولة من إدراك بطبيعة التحديات التي تواجه الوطن، ووعي بأولوية الاستقرار كشرط ضروري للنمو والنهضة، وقدرة ناضجة على التمييز بين النقد البناء الذي يصلح والتخريب المقنع الذي يفرغ المؤسسات من مضمونها ويشكك في شرعيتها، فالاصطفاف يبنى ويترسخ من خلال الثقة المتبادلة والانتماء الحقيقي والشعور بالمسؤولية المشتركة الجماعية في الدفاع تجاه الكيان الوطني، فالدولة المصرية ذاكرة حضارية ضاربة وهوية وطنية تشكّلت عبر قرون من النضال والبناء، وهي كذلك مشروع وطني متنامي للعبور إلى المستقبل رغم تقلبات الإقليم والعالم.
ولا بد من الإشادة بالدور البطولي الذي يضطلع به جهاز الشرطة المصرية، والذي كان وما يزال حائط الصد الأول في مواجهة محاولات اختراق المجتمع من الداخل، فهؤلاء الرجال الذين أقسموا على حماية الوطن، خاضوا معارك ضارية ضد تنظيمات مسلحة عابرة للحدود، مدعومة بتمويل خارجي، وتدريب استخباراتي، ومعلومات تستهدف زعزعة استقرار الدولة من الجذور، ولقد قدم رجال الشرطة الشهداء والمصابين في ميادين الواجب، كي لا تتحول مصر إلى نسخة من دول انهارت تحت وطأة الفوضى، والغلو الديني، والتشظي السياسي، وقفوا في وجه العنف والتطرف بثبات عقيدتهم الأمنية، وبإيمان راسخ بأن أمن الوطن حق أصيل للشعب، ومسؤولية تاريخية لا مجال للتفريط بها، وما حققته الدولة المصرية من صمود في وجه هذه التحديات لم يكن ممكنًا لولا تضحيات هؤلاء الرجال، الذين حملوا على عاتقهم مهمة الدفاع عن جبهة الوطن الداخلية.
إن معركة الوعي لا تقل خطرًا عن معركة السلاح ولعلها الأعمق والأشد تأثيرًا، لأنها تخاض في العقول والضمائر وتمتد آثارها إلى الأجيال والمستقبل، ولهذا فإن أي مشروع وطني للنهوض لا يكتمل إلا بمشروع معرفي موازٍ، يتصدى لمحاولات الاختراق الثقافي والتضليل المعرفي، ويحصن الوعي العام بمنظومة تعليمية تربي على التمييز والتحليل والنقد، وخطاب إعلامي رصين، ولرجال الدين والمثقفين، والمفكرين دور لا يقل أهمية عن أدوار الجيش والشرطة؛ لأن الكلمة الحرة المسؤولة، والنقد البناء، والتثقيف الجمعي جميعها مكّنات أساسية في حماية الأمن القومي وصيانة الذاكرة الجمعية وترسيخ الانتماء الوطني، فمصر التي واجهت أعتى التحديات، أثبتت مرارًا أن وعي شعبها أعمق من مكائد المتربصين وشائعاتهم، وأن مؤسساتها الأمنية والعسكرية أكثر وعيًا بطبيعة المعركة وأكثر تصميمًا على الانتصار فيها.
احم وطنك نداء صادق يتوجه إلى كل مصري ومصرية بالمشاركة، باليقظة، بالثقة، احم وطنك بعقلك حين ترفض الشائعة وتراجع المصدر وتسائل النوايا وتختار الاصطفاف خلف الحق لا خلف الأوهام، احم وطنك حين تدرك أن ثمن الاستقرار يدفع كل يوم من دماء الأبطال الذين يحمونك في الظل، يسهرون لنحيا في أمان، احم وطنك لأن الأوطان لا تهدى، ولكن تصان بالوعي وتبنى بالثقة وتحمى بالتحقق وبالاصطفاف الوطني المسؤول.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر

