تتجلى في لحظات التحول التاريخي الحاجة إلى إعادة تعريف المفاهيم السياسية الكبرى، وفي طليعتها مفهوم الجدارة الانتخابية فمع بداية الجمهورية الجديدة، يصبح الحديث عن الانتخابات جزءًا من مشروع وطني شامل يعيد رسم العلاقة بين المواطن والدولة على أسس من الوعي والمسؤولية والالتزام، وتعد الجدارة الانتخابية آلية لضبط الإيقاع الديمقراطي، وضمان تمثيل حقيقي يجسد إرادة الشعب، ويحمي استقرار الدولة، فهي مؤشر بالغ الدقة على نضج المجتمع السياسي، ووعي أفراده، وقوة مؤسساته، ومن ثم فإن التمتع بحق التصويت أو الترشح يعد امتيازًا ومسؤولية وطنية تترتب عليها التزامات أخلاقية وقانونية، تتطلب قدرًا من النضج والوعي والإدراك العميق لمآلات القرار السياسي، فما بين حق الترشح وواجب الاختيار، وبين حرية التصويت ومسؤولية المحاسبة، تتحدد ملامح الجمهورية الجديدة التي تؤمن بالمضمون والكفاءة.
ويقتضي الحديث عن الجدارة الانتخابية فهماً لطبيعتها المركبة، فهي تتطلب توافر شروط محددة تتعلق بالعمر، والجنسية، والقدرة العقلية والنفسية، والسجل الجنائي، ومدى الإدراك القانوني والسياسي، فضلًا عن معايير النزاهة والاستقامة العامة، فهذه الشروط ليست عوائق، بل ضمانات لتحقيق الحد الأدنى من المسؤولية والوعي، وهي التي تصنع الفارق بين مشاركة مسؤولة تفضي إلى الاستقرار، وتعبر الجدارة الانتخابية في جوهرها عن قدرة الفرد على الفهم الواعي، والمساءلة الرشيدة، واتخاذ القرار المسؤول، بوصفه فاعلًا أساسيًا في صياغة مستقبل وطنه، فهي مرآة لوعي المواطن بموقعه في بنية الدولة الحديثة، وفهمه لطبيعة السلطة، وحدودها، ووظائفها، ومسؤولياتها تجاه المجتمع، كما تجسد إدراكه لمفهوم المواطنة بوصفها علاقة تكاملية تقوم على التوازن بين الحقوق والواجبات، وتستدعي حضورًا فكريًا وأخلاقيًا في ساحة الشأن العام.
وفي أطار سعي الجمهورية الجديدة إلى إعادة تأسيس العلاقة بين الدولة والمواطن على أسس من الشفافية والكفاءة والمساءلة، تعاد قراءة هذا الحق الحيوي من منظور متوازن دقيق، يربط كلًا من التمكين والمسؤولية، وحرية الاختيار وضرورة تحمل نتائجه، والمشاركة السياسية ومعايير الكفاءة الوطنية، فالهدف توسيع قاعدة المشاركة والارتقاء بجودتها، عبر تأهيل المواطن سياسيًا ومعرفيًا وأخلاقيًا، ليكون جديرًا بصوته وواعيًا بأثره، وبالتالي يبرز الدور المحوري للمؤسسات التعليمية، والإعلامية، والثقافية، في تنمية هذا الوعي، وتكريس قيم النزاهة والتعددية والاحترام المتبادل، وغرس الإيمان بأن الصوت الانتخابي موقف وطني نابع من عقل راشد وضمير حي.
وتتمثل أولى صور الجدارة الانتخابية وأكثرها شيوعًا في أهلية التصويت، التي تعكس تمكين الفرد من المشاركة الفعالة في اختيار من يمثله، ويتحدث باسمه في قضايا الشأن العام فالمواطن الجدير بصوته هو من يدرك أن العملية الانتخابية ممارسة مدنية راشدة، تتطلب وعيًا بالتاريخ، واستشرافًا دقيقًا للمستقبل، وفهمًا عميقًا للتحديات الوطنية، وإيمانًا بأن اختياره يسهم بصورة مباشرة في بناء الدولة ونهضتها، ومن ثم فإن الجدارة الانتخابية استحقاق أخلاقي وثقافي نابع من تربية ديمقراطية متراكمة، وتجربة مجتمعية ناضجة، وبنية معرفية تؤمن بالحوار، والتعدد، والمصلحة العامة.
وتهتم الجمهورية الجديدة ببناء الإنسان باعتباره حجر الزاوية في مشروع النهوض الوطني، حيث ينظر إلى المواطن كفاعل سياسي واعٍ، وشريك رئيس في صياغة القرار، لأنه يستحق هذه المشاركة ويدرك تبعاتها وهذا التحول في النظرة إلى المواطن يستند إلى رؤية تنموية شاملة، تجعل من التمكين السياسي ممارسة عقلانية مستدامة، ومسؤولية أخلاقية ومن ثم يصبح من الضروري إرساء ثقافة الجدارة بمعناها الواسع المعرفي، والأخلاقي، والوظيفي، قفي ظل الجمهورية الجديدة المشاركة الانتخابية تعاد صياغتها على أساس من الإدراك لأثر الصوت الانتخابي في رسم مصير الدولة والمجتمع.
ولذلك تعمل الجمهورية الجديدة، بما تحمله من وعود للإصلاح وإعادة البناء، على إعادة تعريف الجدارة الانتخابية باعتبارها مسؤولية مجتمعية وفردية تتطلب الوعي والبصيرة، وهذه الرؤية الجديدة تتطلب تأسيس وعي جديد لدى الفرد بأن صوته أداة تغيير يجب أن تستخدم بعقل راجح وميزان أخلاقي، فكل صوت مسؤول هو لبنة في بناء مستقبل أفضل إنها لحظة فارقة في تاريخ الممارسة السياسية، تؤمن فيها الدولة بأن المواطن القوي الواعي هو الضامن الوحيد لدولة قوية مستقرة، ولا يمكن لهذا التحول أن يتم دون مراجعة بنية التمثيل السياسي نفسها، فلابد من ضمان أن تكون آليات الترشح والانتخاب مرآة للواقع المجتمعي بتنوعاته، وأن تتاح الفرص العادلة للمؤهلين من مختلف الشرائح وجعل الساحة الانتخابية ساحة برامج.
وثمة بعد بالغ الأهمية حول الجدارة الانتخابية، وهو البعد الأخلاقي للممارسة السياسية، فليس كافيًا أن يحسن المرشح الخطابة أو يحمل أعلى الشهادات، إذا كان يفتقر إلى روح المسؤولية العامة، والنزاهة، والشفافية، والالتزام الصادق بالمصلحة الوطنية، فالقدرة على العمل الجماعي، وتحمل الأمانة التشريعية، واحترام قواعد الحياة الديمقراطية، هي جوهر أصيل من جدارة الترشح والتمثيل، ومن دون هذا البعد الأخلاقي، تفقد العملية الديمقراطية مضمونها الحقيقي، لذا لابد من تحويل التثقيف السياسي إلى مشروع وطني شامل، يبدأ مبكرًا في المدارس، ويتواصل في الجامعات، ويتأصل في أنشطة الإعلام والمجتمع المدني، لينتج في النهاية مواطنًا يفهم ويميز ويشارك بوعي ومسؤولية.
ويعد بناء المواطن الواعي هو السبيل الوحيد لإنتاج ناخب مسؤول ونائب جاد، يحمل القيم ويحترم الوعي الشعبي، وبدون هذا الجهد التربوي والاجتماعي، ستظل الجدارة شعارًا قانونيًا ومجرد نصوص لا تصمد أمام الممارسة الواقعية، وقد أثبتت تجارب التحول السياسي الناجحة في العديد من الدول أن المجتمعات لا تتقدم إلا عندما تمنح الحقوق وتقرن بالمسؤوليات، فعندما يدرك المواطن أن صوته يحدث فارقًا حقيقيًا، وأن مقعد البرلمان أمانة ثقيلة يصبح الترشح تكليفًا ويغدو التصويت موقفًا وطنيًا، وهذا هو جوهر الفلسفة الجديدة التي تتبناها الجمهورية الجديدة من دمج الحق بالواجب وربط الحرية بالمسؤولية، واستبدال الوعود الفضفاضة بالمعايير الصارمة للجدارة الأخلاقية والوطنية، وبناء سياسة راشدة، يشارك فيها المواطن لأنه يعرف، ويختار لأنه مسؤول، ويصوت لأنه يدرك أن الوطن يبنى بالاختيار المتبصر.
ولا يمكن إغفال الدور المتنامي للتكنولوجيا في تعزيز أو إضعاف الجدارة الانتخابية فالمنصات الرقمية، إذا أُحسن توظيفها، تصبح أدوات فاعلة في تنمية الوعي، ونشر البرامج الانتخابية، وتعزيز الشفافية، لكنها إن تركت دون تنظيم ومتابعة، تتحول إلى مساحات للفوضى والتضليل، وتفرز وعيًا زائفًا يقوض الثقة العامة، لذا فإن هذه المنصات باتت عنصرًا فاعلًا في معادلة الجدارة، تستلزم تشريعات ضابطة وتربية إعلامية تحصّن الوعي العام من الاختزال والتزييف.
ونؤكد أن الجدارة الانتخابية، كما تتصورها الجمهورية الجديدة، مشروع وطني متكامل يعيد رسم العلاقة بين الفرد والدولة، ويؤسس لديمقراطية حقيقية تبدأ من وعي المواطن، وتتجسد في نزاهة المؤسسات، وتثمر مجالس تشريعية تعبر عن ضمير الأمة وطموحاتها، ومن ثم تمضي الدولة بخطى واثقة نحو التحديث الشامل، واعتبار الجدارة الانتخابية ضرورة وطنية، ومفتاحًا لتحصين الوطن ، وتمكين المواطنين من المشاركة الواعية في بناء المستقبل ويفتح الأفق لغد يليق بتاريخ مصر ويتسع لطموحات شعبها، فالجمهورية الجديدة تبنى بالعقول التي تحسن الفهم والاختيار، وبالضمائر التي تصون الأمانة وتحمي الإرادة الشعبية.
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات القاهرة – جامعة الأزهر.

