ثورة العلم الحديث في عالم الأغذية الجاهزة
ليس من الغريب أو المستهجن أن تتجلى ثورة العلم الحديث في المكان والزمان المناسبين، لتنتج ما نراه اليوم من إبهار بصري وتنوع ثري في عالم الأغذية الجاهزة، التي نتناول كثيراً منها اليوم على رغم أنها كانت معدة أصلاً للجيوش، والتي تتضمن مأكولات ومخبوزات ومشروبات عديدة تغص بها رفوف الأسواق اليوم. فثورة العلم، هذه المرة، حدثت في عالم قريب للقلوب، وهو عالم الطعام، لكنها حدثت في توقيت ومكان غريبين للغاية، هما ساحة المعركة أو جبهات القتال كما يسمونها.
أبحاث غذائية عسكرية
حدث ذلك في لحظة الاشتباك المباشر مع العدو في مشارق الأرض ومغاربها. فهناك أبحاث غذائية عسكرية كثيرة كانت خاصة بالجيوش على جبهات القتال قديماً، لكنها ظهرت وبدأ انتشارها في العالم الحديث منذ عقود عدة من الزمن. ومن أشهرها المعلبات والخميرة الفورية وبعض إنزيمات الخبز التي تحفظه طازجاً أياماً عدة، فهي كلها بالأساس نتاج أبحاث عسكرية خاصة بالجيوش على جبهات القتال. فمتى ظهرت وأين بدأ انتشارها تحديداً؟
إجابة
من الواضح أن العالم بعد الحرب العالمية الثانية شهد ما يمكن تسميته "حمى تطوير غذاء الجنود"، إذ حدث ذلك في فترة زمنية متأخرة يمكن حصرها بين عامي 1991 وحتى يومنا هذا. أما قبل ذلك، فكانت المعلبات الرديئة هي أشهر ما تناوله الجنود على جبهات القتال. ويبدو أن للفرنسيين فضلاً كبيراً في ظهور هذه الثقافة الغذائية الحديثة ضمن معسكرات وجيوش العالم، بسبب مقولة القائد الشهير نابليون بونابرت الذي كان صاحب مقولة "الجيش يسير على بطنه".
تحفيز
حفزت هذه المقولة أشخاصاً ومؤسسات كثيرة عبر العالم لتطوير أغذية الجيوش في ساحات القتال، وقد تحولت لاحقاً إلى أصناف مألوفة من المأكولات بالنسبة إلينا في مناطق الريف والحضر وحتى البادية. وفي هذا السياق وتحت عنوان "وجبات نادرة: كيف أحدث العلم ثورة في عالم الطعام في ساحة المعركة؟" كتب محرر موقع متخصص في تكنولوجيا الجيوش في الولايات المتحدة الأميركية يقول "يعد إطعام الجنود في ساحة المعركة من أهم جوانب خوض الحرب، وبفضل التقدم التكنولوجي والبحث العلمي، لم يعد الجنود مضطرين إلى تحمل عناء الطعام المعلب، بل أصبح بإمكانهم الاستمتاع بأجواء راحة منازلهم".
عملية "عاصفة الصحراء"
تؤرخ المجلة الأميركية هذه العملية الخاصة بأبحاث الجيوش على الغذاء بعملية "عاصفة الصحراء"، وذلك عندما انتشرت القوات الأميركية في الصحراء العربية عام 1991. وكانت تلك البيتزا التي تدوم ثلاث سنوات مجهزة حينها بمعدات وتقنيات ثورية جديدة، لكنها لم تكن سلاحاً أو درعاً واقية، بل كانت عبوة تموين عسكرية جديدة تماماً تسمى MRE، اختصاراً لعبارة "وجبة جاهزة للأكل".
أهم سلاح
على عكس ما نتصور فإن الطعام الجيد هو أهم سلاح في ساحة المعركة وليس الدروع الواقية أو الذخائر. وفي السياق قال قائد فريق في مديرية التغذية القتالية التابعة لـ"البنتاغون" جيريمي ويتسيت "التغذية الميدانية التشغيلية بالغة الأهمية للحفاظ على قوة المقاتل وقدرته على الفتك وفاعليته في ساحة المعركة. إنها بأهمية منظومة الأسلحة نفسها".
بداية الحكاية
منذ طرح أولى وجبات جاهزة للأكل في ثمانينيات القرن الماضي دأبت فرق البحث في مركز أبحاث وصيانة الأغذية الوطنية NSRDEC على إيجاد طرق مبتكرة لتحسين جودة العبوات، وقد أنفقت مليارات الدولارات لضمان أن تكون عبوات التموين من بين الأفضل في العالم. وقد توجت هذه الجهود بعديد من الإنجازات التكنولوجية التي ستسمح قريباً بتضمين منتجات مثل البيتزا والمأكولات البحرية وحتى الخضراوات الطازجة في عبوات التموين.
مرحلة التطوير الأولى
حينها كانت البيتزا لا تزال في مرحلة التطوير ولم تقدم بعد في أي وجبات جاهزة. وتقول شركة "نايتك"، "نحو 12 إلى 15 نوعاً من البيتزا طورت في المختبر لتجريبها ميدانياً مع القوات في وقت لاحق من ذلك العام. وكانت إحدى أكبر العقبات التي واجهها الفريق ضمان إمكان إنتاج البيتزا على نطاق صناعي.
أصابع الموت
الوجبات الغذائية التي كان الجنود يتلقونها، قبل ذلك التاريخ تحديداً، كانت تعرف بأسماء ساخرة. فكان الجنود يطلقون على إحدى الوجبات اسم "أصابع الموت الأربع"، لأنها كانت عبارة عن أربع قطع "هوت دوغ" صغيرة توضع في كيس. وبعد انتهاء حرب الخليج الأولى أشارت آراء الجنود إلى ضرورة إدخال تحسينات كثيرة على وجبات الطعام الجاهزة.
"الهوت دوغ" هو السبب
بالعودة للجيل الأول من وجبات الطعام الجاهزة، في أوائل الثمانينيات، كان "الهوت دوغ" هو السبب الثاني، بعد المعلبات الرديئة، في تحفيز ثورة تطوير غذاء الجيوش. وبعد انتهاء حرب الخليج، تدخل رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك كولن باول شخصياً لضمان حصول الجنود على حزم تموين عالية الجودة في العمليات.
حتى نهاية التسعينيات
كان بإمكان الجنود المنتشرين في "عاصفة الصحراء" في البداية الاختيار من بين 12 وجبة مختلفة في وجباتهم الجاهزة. ومع التركيز الجديد على متطلباتهم، زاد النطاق إلى 16 ثم 20، وبحلول نهاية التسعينيات، كان هناك 24 نوعاً من الوجبات للاختيار من بينها. كما تلا هذه الزيادة في الوجبات، تنويع في المأكولات لتشمل أطباقاً إيطالية وآسيوية وإسبانية تناسب مختلف الأذواق.
لمحة تاريخية
في مقالة حديثة بقلم آرون ستوياك على موقع "الحرب الأهلية الأميركية" أشار الكاتب إلى تاريخ أقدم بكثير لهذه الصناعة الغذائية، موضحاً أن الإنجليزي بيتر دوراند، والفرنسي نيكولاس أبيرت طورا، كل على حدة، عمليات لحفظ المواد الغذائية عام 1810، فاستخدم أبيرت حاويات زجاجية، لكن طريقة دوراند في تغليف المنتج بالقصدير تطورت لتصبح مجدية تجارياً في الولايات المتحدة خلال عقد من الزمن.