اكتب مقالاً عن
أغلب الظن أن الشرارة الأولى لاجتهادات الـ”سوشيا ميديا” بدأت مع شرارة حريق سنترال رمسيس الأولى. ولولا أن الاتصال بالإنترنت تأثر سلباً بسبب الحريق، لفاق سعير نظريات الحريق واستراتيجيات الإطفاء وتوليفات المؤامرة وشروح “كيف تشعل حريقاً في خمس خطوات؟”، وسرديات “كيف تسيطر على امتداده بينما أنت جالس في المقهى؟”، و”لماذا اشتعل الحريق في هذا الوقت بالذات بحسب مبادئ الفلك وعلوم الطقس وقواعد السلامة المهنية ومبادئ الحروب الجيوسياسية؟” لهيب نيران “سنترال رمسيس”.
الحدث الذي أضاف لهيب التحليل واشتعال التفنيد إلى ألسنة اللهب وأعمدة الدخان الصادرة عن الحريق المريع كشف عن كيان معتبر ودور مستقل وقوة عظمى تؤكد أنها وجدت لتبقى اسمها “قوة التدوين الشعبي على منصات الـ’سوشيال ميديا‘”.
أعمدة الدخان تقود
الدقائق الأولى التي بدأت أعمدة دخان تلوح في الأفق قادت الرأي العام العنكبوتي صوب تكهنات مصحوبة بشهادات، بعضها معاد تدويره نقلاً عن “حسام صاحبي” و”وسام بنت خالتي” و”واحد معرفة في الحكومة”، وبعضها الآخر نقلاً عما قاله “بواب” (حارس) العقار الذي تصادف وجوده في “صيدلية الإسعاف” (القريبة من السنترال) لصرف دواء ابنه المريض، وبابا وهو محشور في الباص العام عائداً من العمل.
حريق في أكوام قمامة وماس في عمود إنارة واحتراق سيارة واشتعال النيران في “وكالة البلح” (سوق متخصصة في بيع الأقمشة والملابس المستعملة) وغيرها كثير من تفسيرات النيران والدخان ضلت طريقها وظلت مهيمنة، ولا سيما بعد ما انقطعت خدمة الإنترنت والاتصالات الهاتفية عن الملايين وتعذر تحديث الاجتهادات.
ومع زيادة كثافة الأدخنة ورائحة الحريق التي اقتحمت كثيراً من المباني في محيط آخذ في الاتساع، حظي من بقيت هواتفهم وأجهزتهم متصلة بالإنترنت، ولو كان بطيئاً، بالانفراد بملعب التنظير. جهود التنظير الأولى لم تربط بين الأدخنة التي جرى تحديد موقعها بصورة أكثر دقة، حيث شارعا رمسيس والجلاء في وسط القاهرة، وبين توقف فجائي لماكينات الصراف الآلي والدفع بالبطاقات في كل مكان. “السيستم واقع” “الأغلب عملية تحديث” وتوالت الاجتهادات إلى أن ظهر السنترال مشتعلاً بألسنة اللهب تتطاير من النوافذ، والدخان يحجب الرؤية بصورة شبه كاملة في هذا المربع المتخم بالسكان والمارة والمحال التجارية والمستشفيات، ناهيك عن حرارة جو قائظة ورطوبة خانقة.
الخط الأبرز في ما كتبه وتداوله المصريون على الـ”سوشيال ميديا” دار حول الإهمال (رويترز)
ومع انتشار خبر اشتعال حريق في “سنترال رمسيس” شفوياً، تعذرت عملية الهبد العنكبوتي حتى ساعات الليل الأولى التي شهدت عودة متدرجة لخدمة الاتصالات والإنترنت. وظلت الدقائق الأولى من العودة الجزئية للخدمات مقتصرة في غالبيتها على صور وفيديوهات التقطها بعضهم، وشهادات لسكان وعاملين في المنطقة، ثم تطاير اللهب الشعبي بصورة غير مسبوقة.
ولأن حريق السنترال الواقع في حي الأزبكية، والعلامة المميزة التي يعرفها كل المصريين على مدى عقود، تحديداً منذ افتتاحه عام 1927 باسم “دار التلفونات الجديدة”، أتى بعد أيام قليلة من حادثتي سير بشعتين أودتا بحياة 28 شخصاً على طريق واحد، عكست التدوينات والتغريدات وكذلك المحتوى المرئي توليفة من الغضب والحزن والإحباط.
الخط الأبرز في ما كتبه وتداوله المصريون على الـ”سوشيال ميديا” دار حول الإهمال، وعلى رغم أن توجيه أصابع الاتهام جرى قبل أن ينقشع الدخان ويتضح حجم الحريق وآثاره، فإن هذه الهرولة صوب “الإهمال” جاءت طبيعية ومنطقية ومفهومة.
الإهمال المتهم الأول
حتى لو ثبت أن “الإهمال” ليس المتهم المباشر الأول، يبقى العامل الأكثر هيمنة على فكر المصريين وتداولاً على المنصات. “حريق سنترال رمسيس يعكس إهمالاً ضخماً. لماذا تركوا هذا المبنى القديم والعريق بكل أهميته وحساسيته في هذا المكان المزدحم في وسط البلد؟”، “كارثة سنترال رمسيس مجرد تغيير في المكان وأسماء وعدد القتلى، وتضاف إلى قوائم ضحايا الإهمال المؤسسي”. “كارثة تكشف عن هشاشة البنية التحتية والأهم، إهمال عام”.
واللافت في الكارثة هذه المرة أن قطاعاً عريضاً من المصريين عادوا بعد طول غياب لتداول وإعادة نشر ما قال “نواب الشعب” تحت قبة البرلمان، فالأعوام الأخيرة شهدت تراجعاً شعبياً واضحاً وانسحاباً اجتماعياً مؤكداً، بعيداً من الاهتمام بما يجري تحت القبة لأسباب عدة تراوح ما بين فقدان الشغف وفقدان الأمل وفقدان الرغبة، إضافة إلى شعور لدى بعضهم بأن ما يجري تحت القبة صدى صوت الحكومة. هذه المرة، ومع تفجر توجيه الاتهامات الحادة من النواب إلى المسؤولين، غمرت كلمات النواب الغاضبة أثير الـ”سوشيال ميديا” تناقلاً وتداولاً وتعليقاً.
آلاف المستخدمين ممن لا يعرفون النواب أو يسمعون من قبل عن أسمائهم تداولوا مداخلاتهم وكأنها أقوال مأثورة. ما قاله ضياء الدين داوود من أن “هذه الحكومة تدير النيران، وبياناتها كاذبة ومضللة، وتغيب عن المشهد لأكثر من 14 ساعة، بينما المواطنون لا يعلمون ماذا يحدث في شبكة الدولة الرقمية. ما جرى فضح هشاشة البنية التحتية للاتصالات، على رغم ما جرى الإعلان عنه من مليارات وتريليونات جرى ضخها في مشاريع التحول الرقمي. أين ذهبت هذه الأموال؟ وأين هي الحكومة التي كانت تتحدث عن مصر رقمية جديدة، بينما توقفت الدولة بسبب حريق؟” جرى تناقله آلاف المرات.
كذلك الحال مع كلمات النائب عمرو درويش الذي قال إن “ما جرى يتجاوز الأزمة ويقترب من الكارثة. مصر تعطلت علشان (بسبب) سنترال رمسيس حصل فيه حريق. البلد عطلت كلها، لا مستشفيات ولا بنوك ولا جوابات (أوراق) العلاج على نفقة الدولة الناس مش عارفة تعملها”، إذ تداول المصريون كلماته على رغم عدم معرفة الغالبية بالمقصود بـ”تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين” التي ينتمي إليها.
تنضح صفحات سوشيال ميديا المصريين بكثير من الاحتقان بسبب الحريق (رويترز)
حتى النائب الإعلامي مصطفى بكري الذي يعتبره قطاع عريض من المصريين لسان حال الحكومة غير الرسمي، وجدت كلماته الغاضبة طريقها إلى صفحات المصريين على “فيسبوك” و”إكس” وغيرهما بعد طول غياب. ولم لا، وقد دق بكري على ثالوث الإهمال والعشوائية وغياب المحاسبة التي اعتبرها “سبب احتقان المصريين”.
صفحات الـ”سوشيال ميديا” تنضح بـ”احتقان المصريين”، وإذا كانت المداخلات النارية والانتقادات الحادة التي وجهها النواب نزلت برداً وسلاماً على الأثير، فقد أتت كذلك بمفعول تلطيفي معروف في مثل هذه الأحوال. فبدلاً من التضييق على الانتقاد وتحجيم الغضب المعلن وإسكات الأصوات المعبرة عن نبض الجماهير، كان لإطلاق العنان لها مفعول مهدئ أشفى غليل بعضهم، ولو عنكبوتياً.
وما تنضح به الـ”سوشيال ميديا” حالياً ليس شفاء غليل، أو امتصاص غضب فقط، فمحتوى الاجتهاد أيضاً فائق. هناك محاسبون يشرحون العوامل الهندسية التي أدت إلى الحريق، وحرفيون يؤكدون أن السبب الحقيقي ماس كهربائي بسبب غلاية شاي، وربات بيوت يرجحن أن “الكراكيب” المكدسة أعلى كثير من المباني الحكومية حريق ينتظر الاشتعال يومياً، وخبراء تنمية بشرية يكتبون أن العامل الرئيس هو سخونة أجهزة التبريد مع ارتفاع حرارة الجو، وأطباء يكتبون أن الأجهزة قديمة والصيانة شحيحة وسلاسل إمداد التفسيرات لا تنقطع.
كم مذهل من الفيديوهات لصناع محتوى يجري تحميلها وتداولها بعناوين مثل “إيه إللي حصل في سنترال رمسيس؟ وليه الدنيا وقعت بهذا الشكل؟” و”انهيار البلوغر س ف وهي تشرح تفاصيل حريق سنترال رمسيس” و”انقر واعرف سر الحريق” وغيرها كثير.
وكما هي العادة، خرجت شخصيات محسوبة على تيارات معارضة مقيمة خارج مصر، وغالبيتها تنتمي أو محسوبة أو تعمل لمصلحة جماعة “الإخوان المسلمين”، بمحتواها الخاص بمثل هذه المناسبات، بين “إنسَ شماعة (حجة) الماس الكهربائي واعرف سر الطابق السابع في حريق السنترال” و”اعرف حقيقة حريق سنترال رمسيس وبيع وسط البلد” و”علاقة تدمير العاصمة القديمة بحريق السنترال” وغيرها من المحتوى الذي يصفه بعضهم بـ”الصيد في المياه العكرة”، ويراه آخرون متعاطفون مع هذه التيارات “عين العقل”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غضب وإحباط وقلق
وفي حين يبدو الحديث عن العقل وعينه على الـ”سوشيال ميديا”، والحدود الفاصلة بين الأخبار وأشباه الأخبار، والصور والفيديوهات الحقيقية وتلك المصنوعة بتدخلات الذكاء الاصطناعي، أمراً صعباً وبعيداً من هبد الهابدين في ما لا يعرفون بالضرورة، وإفتاء المفتيين في ما لا يفقهون حتماً، وهما من الآثار الجانبية العكسية لمنصات التواصل الاجتماعي، فإن جانباً كبيراً مما يكتبه ويتداوله المصريون في ضوء حريق “سنترال” رمسيس يكشف عن كثير من الوعي والرغبة العارمة في الإصلاح. كما يكشف أيضاً عن حجم غضب وإحباط وقلق كبير.
غضب من حوادث متكررة يبدو فيها خيط الإهمال والتراخي والسكوت انتظاراً لوقوع كارثة واضحاً، وإحباط من تكرار حوادث موجعة يعلم الجميع أنه كان في الإمكان منعها، أو في الأقل تقليصها، إضافة إلى غياب واضح لدور الإعلام التقليدي كجهة رقابية، ومنصة للاطلاع والمعرفة على الجديد، وفتح أبواب النقاش بين مختلف الفئات والآراء والتوجهات، ومحاسبة المسؤولين بحجة المعلومات وبرهان قواعد المسؤولية.
اللافت والغريب أن غالبية النقاط الرئيسة التي طرحها مصريون على الـ”سوشيال ميديا” ضمن تعبيرهم عن ثالوث الغضب والإحباط والقلق لم تخرج عنها النقاط التي خرجت بها لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التي عقدت بصورة عاجلة في مجلس النواب في اليوم التالي للحريق، وهي المطالبة بالشفافية في معرفة أسباب الحريق، وإذا كان هناك تقصير في تطبيق قواعد السلامة، وأن ما حدث هو خطأ جسيم بغض النظر عمن المخطئ واسمه ومنصبه، والكشف عما إذا كانت هناك خطط طوارئ في مثل هذه الحالات، ومصارحة المصريين بسيناريوهات التعامل مع حوادث شبيهة مستقبلية.
استمرت عمليات إخماد حريق سنترال رمسيس وسط القاهرة ساعات عديدة (رويترز)
في سياق آخر، لكن من وحي الحريق، بدا أن هناك اتجاهاً لدى بعضهم لعمل خطط وبدائل شخصية من دون انتظار الخطط الوطنية والبدائل القومية. وانقطاع الإنترنت والاتصالات وتوقف ماكينات الصراف والدفع الآلي وغيرها يدفع بعضهم إلى إعادة النظر في اعتماده على الرقمنة، وفي إحالة البنكنوت إلى التقاعد والاعتماد على “البلاستيك” (البطاقات البنكية).
وكتب أحدهم “في جيبك الآن ألف جنيه، هذا قدرك. في جيبك الآن 10 جنيهات، هذا مصيرك”. وغرد آخر ساخراً “أطالب بعودة البقال والشراء على النوتة (أي الدفع الآجل) مما يتناسب تماماً ومقترحات عودة ’التكية‘ و’الكتاتيب‘ (مقترح ومبادرة حكوميتين)”.
ما جمع بين الكل، باستثناءات بسيطة، من الموجودين على أثير الـ”سوشيال ميديا” بفعل حريق “سنترال رمسيس” هو تعاطف جارف مع موظفي السنترال الذين لقوا حتفهم اختناقاً، وإعجاب طاغٍ برجال الإطفاء الذين قاموا بعمل أقل ما يمكن أو يوصف به هو “البطولي”.
باللغة العربية لتسهيل قراءته. حدّد المحتوى باستخدام عناوين أو عناوين فرعية مناسبة (h1، h2، h3، h4، h5، h6) واجعله فريدًا. احذف العنوان. يجب أن يكون المقال فريدًا فقط، ولا أريد إضافة أي معلومات إضافية أو نص جاهز، مثل: “هذه المقالة عبارة عن إعادة صياغة”: أو “هذا المحتوى عبارة عن إعادة صياغة”:

