الرفض المناعي: التحدي الكبير في زراعة الأعضاء
تمكن باحثون من رسم خرائط تفصيلية لكيفية تفاعل الخلايا المناعية البشرية مع أنسجة كلى الخنازير المزروعة، وباستخدام تقنيات تصوير جزيئي مكاني متطورة، حددوا على وجه الدقة الاستجابة المناعية لعمليات زرع الكلى من الخنازير إلى البشر في خطوة من شأنها التغلب على التحدي الأكبر المتمثل في رفض الجهاز المناعي للعضو المزروع.
كشفت الدراسة عن علامات جزيئية مبكرة وحاسمة للرفض بوساطة الأجسام المضادة، والتي ظهرت في وقت مبكر من اليوم العاشر، وبلغت ذروتها في اليوم الثالث والثلاثين بعد الزرع، ولا تؤكد هذه النتائج على أن الرفض يبدأ بسرعة فقط ويتطور بمرور الوقت، بل تحدد أيضاً نافذة زمنية حاسمة للتدخل العلاجي المستهدف.
فهم الرفض المناعي
ويحدث رفض الكلى، أو أي عضو مزروع، عندما يتعرف الجهاز المناعي للمتلقي على العضو الجديد على أنه "غريب" أو غير ذاتي، فيشن هجوماً مناعياً ضده بهدف تدميره، وهي استجابة طبيعية تهدف لحماية الجسم من مسببات الأمراض.
وتتضمن عملية الرفض آليتين رئيسيتين؛ الأولى هي الرفض بوساطة الخلايا التائية إذ تتعرف الخلايا الليمفاوية التائية للمتلقي على المستضدات الغريبة الموجودة على خلايا العضو المزروع وتتسلل إليه لتلف الأنسجة؛ والثانية هي الرفض بوساطة الأجسام المضادة، إذ تتكون أجسام مضادة ضد مستضدات المتبرع، وتلتصق ببطانة الأوعية الدموية للعضو المزروع، مما يؤدي إلى تنشيط الجهاز المناعي وتلف العضو.
التجارب السريرية
يأتي هذا التقدم في فهم عملية الرفض في وقت محوري، إذ تبدأ أولى التجارب السريرية لزرع كلى الخنازير في متلقين بشريين أحياء في الولايات المتحدة خلال العام الحالي؛ مما يمهد الطريق لجعل الكلى المعدلة وراثياً من الخنازير حلاً قابلاً للتطبيق على المدى الطويل.
ووافقت إدارة الغذاء والدواء الأميركية في فبراير 2025 على إجراء هذه التجارب السريرية، ومُنحت الموافقة لشركتين رائدتين في هذا المجال مما يمهد الطريق لجمع بيانات حاسمة حول مدى فعالية وسلامة هذه الأعضاء المزروعة.
تعديل وراثي للخنازير
وتعتمد هذه التجارب على كلى خنازير تم تعديلها وراثياً بعشرة تعديلات جينية؛ وتتضمن هذه التعديلات إضافة ست جينات بشرية، وتعطيل أربع جينات من الخنزير، بما في ذلك الجينات التي قد تحد من نمو الأعضاء وتلك التي يمكن أن تسبب رفضاً مناعياً بشرياً، ويهدف هذا التعديل الجيني المعقد إلى جعل الكلى أكثر توافقاً مع الجهاز المناعي البشري وتقليل احتمالية الرفض.
زراعة كلية خنزير معدلة وراثياً
في 16 مارس 2024، أصبح ريتشارد سلايمان، وهو رجل يبلغ من العمر 62 عاماً يعاني من الفشل الكلوي، أول شخص يتلقى زرع كلية خنزير معدلة وراثياً في مستشفى ماساتشوستس.
وعملت الكلية المزروعة على الفور، وأظهرت وظيفة جيدة، ورغم وفاة المريض بعد حوالي شهرين من الزرع أكد الأطباء أن الكلية لم تكن سبب الوفاة، وأن الحالة قدمت دليلاً على أن كلية الخنزير يمكن أن تحافظ على وظيفة دائمة في الإنسان دون رفض حاد.
التفاعل المناعي بين الإنسان والأعضاء المزروعة
توفر الدراسة الجديدة أدق خريطة حتى الآن للتفاعل المناعي بين الإنسان وعضو مزروع من الخنزير؛ فمن خلال تحديد أنماط تعبير الجينات وسلوك الخلايا المناعية، يمكننا تطوير علاجات أكثر دقة وفعالية للحد من الرفض.
نقص عالمي حاد في الأعضاء البشرية
ومع استمرار النقص العالمي الحاد في الأعضاء البشرية المتاحة للزراعة، يُنظر إلى زراعة الأعضاء من الخنازير المعدلة وراثياً كحل واعد لسد هذه الفجوة، فيما لا تزال أزمة نقص الأعضاء تمثل تحدياً صحياً وإنسانياً هائلاً، إذ يتجاوز الطلب بكثير العرض المتاح للأعضاء المنقذة للحياة، مما يترك عشرات الآلاف من المرضى في قوائم الانتظار الطويلة.
تحسين العلاجات المناعية
وتشير هذه الدراسة إلى أن تجاوز عقبة الرفض المناعي قد أصبح أقرب من أي وقت مضى، ما يُمهّد الطريق لجعل هذا النوع من الزراعة خياراً علاجياً مستداماً يحل أزمة النقص الحاد في الأعضاء.
ويقول الباحثون إن فهم التفاعل المناعي على المستوى الجزيئي يتيح لنا تصميم تدخلات مخصصة تمنع الرفض قبل أن يتفاقم، مما يضع الأسس لتطوير زراعات أكثر أماناً وفعالية بين الإنسان والخنزير.
مستقبل زراعة الأعضاء
يشير الخبراء إلى أن اعتماد هذا النوع من الزراعة بشكل روتيني سيتطلب سنوات من التجارب الناجحة، وإثباتات مستمرة على السلامة والفعالية في فئات سكانية متنوعة، بالإضافة إلى موافقات تنظيمية صارمة؛ إلا أنهم يقولون إن تلك الدراسة جعلت زراعة الكلى من الخنازير "أقرب مما نتصور".
وفي المراحل المقبلة، سيُركّز الباحثون على تحسين العلاجات المناعية، وتعديل الخنازير وراثياً بشكل أدق، وتطوير بروتوكولات إنذار مبكر للكشف عن الرفض قبل أن يؤثر على العضو المزروع.
ويأمل العلماء أن يؤدي هذا التقدم إلى تحويل زراعة أعضاء الخنازير إلى خيار علاجي اعتيادي في غضون عقد من الزمن، بما قد يغيّر وجه زراعة الأعضاء على مستوى العالم.

