لم تكن ثورة 30 يونيو مجرد يوم فى دفتر الأيام، بل كانت يومًا صنع التاريخ وأعاد تشكيل وعى الأمة. كانت لحظة فاصلة بين الانهيار والانعتاق، بين الخضوع لسطوة تنظيم عابر للحدود، وبين استعادة هوية وطن أرادوا طمسها، وسرقة روحه باسم الدين.
منذ اللحظة الأولى التى تولّت فيها الجماعة مقاليد الحكم، بدأ العدّ التنازلى للسقوط الأخلاقى والسياسى. المواطن الذى خرج فى 25 يناير يحلم بدولة العدالة والقانون فوجئ بأنه استُبدل بنظام مغلق لا يعترف إلا بولائه للتنظيم، ولا يؤمن إلا بمصالحه الضيقة. تم استبعاد الكفاءات، وتهميش مؤسسات الدولة، وبدأ تفكيك بنية الدولة الحديثة تحت شعار “التمكين”، لا للوطن بل للجماعة.
كنت أتابع هذا المشهد الكارثى بحسّ الإمام والداعية والوطنى، ورأيت أن الصمت خيانة. قلتها صريحة فى وجوههم، معترضًا على سلوكياتهم وإقصائهم واستعلائهم:
“لو أتى محمد بدينكم ما دخل فيه رجل واحد”، لأن دين الله لا يُختزل فى جماعة، ولا يُستعمل مطية لحكم أو غطاء لصفقات، ولا يقبل أن يتحوّل إلى لافتة لمشروع مريب يبتلع الدولة باسم “الخلافة”.
ثم جاءت الطامة الكبرى بإصدار الإعلان الدستورى فى نوفمبر 2012، حيث منح الرئيس المعزول نفسه صلاحيات مطلقة، حصّن بها قراراته من أى رقابة أو مراجعة، فى سابقة لم تشهدها حتى عصور الاستبداد القديمة. كان هذا الإعلان شهادة وفاة لمفهوم الدولة ومؤسساتها. تصديت لهذا العبث من على المنابر وفى وسائل الإعلام، وقلت بوضوح:
“هذه ليست رئاسة، بل تفويض فوق الدولة، ومن يسكت عنه شريك فى هدم الوطن.”
وتوالت الكوارث: حصار المحكمة الدستورية العليا، ومنع قضاتها من دخولها؛ حصار مدينة الإنتاج الإعلامى، والاعتداء على الإعلاميين؛ التطاول على الأزهر الشريف ومحاولة إخضاعه؛ الإساءة إلى الكاتدرائية وقيادات الكنيسة؛ تساهل مريب فى ملف الإرهاب فى سيناء، وتنسيقات مع عناصر مسلحة خارجية. كان الوطن يُباع بالقطعة، وكان الشعب يرى ذلك، ويغلى فى صمت.
كنت حينها إمامًا وخطيبًا لمسجد عمر مكرم، وصوتًا لا يهادن. رفضت التلوّن، وواجهت بكل وضوح، فصدر قرار بإيقافى عن الخطابة يوم 9 أبريل 2013، بقرار سياسى لا دينى، صادر من مكتب الإرشاد ومُنفذ بأدوات وزارة الأوقاف التى سيطروا عليها آنذاك.
لكننى لم أنكسر، بل تحدّيت القرار، وصعدت منبر المسجد يوم الجمعة 12 أبريل متحديًا مكتب الإرشاد الذى مرّر القرار، وألقيت الخطبة أمام الآلاف داخل وخارج المسجد، فى رسالة قاطعة: أن المنبر لن يُسكت، وأن الوطن لن يُباع.
وبعد الصلاة، خرجت على رأس مسيرة حاشدة إلى كنيسة قصر الدوبارة، والآلاف من حولى يهتفون: “مسلم ومسيحى إيد واحدة”، و”يسقط يسقط حكم المرشد”، وكان استقبال إخوتنا الأقباط لنا فى الكنيسة استقبال فرح وتهليل، فكان ذلك اليوم تجسيدًا حيًا للوحدة الوطنية فى أسمى صورها.
ومع اقتراب نهاية يونيو، تصاعد الغضب الشعبى، وجاءت الجمعة الأخيرة قبل الثورة، فقلت من على المنبر:
“إذا أرادوا أن يسوقونا باسم الدين، فليعلموا أن الله لا يُعبد على جثة وطن، ولا الشرع يرضى بخراب الدولة.”
وتلك كانت كلمتى قبل الانفجار الشعبى العظيم.
ثم جاءت اللحظة التى اختزنتها الذاكرة بكل خشوع وفخر… يوم الأحد 30 يونيو 2013، حين اعتليت منصة ميدان التحرير. لم تكن مجرد لحظة خطاب، بل كانت لحظة تجلّت فيها روح الأمة بكل ما تحمله من وجع وأمل. الكلمة التى ألقيتها من فوق المنصة لم تكن إلا صرخة صادقة من قلب وطن كان على وشك أن يُختطف، قلت فيها:
“إن الوطن فى خطر، والدين بريء من المتاجرة به. وفرق كبير بين من قبلتهم البيت الحرام، ومن قبلتهم البيت الأبيض؛ بين من يسجدون على تراب الوطن، ومن لا يسجدون إلا على دماء أبنائه. استمروا فى ثورتكم، لا لتُسقطوا شخصًا، بل لتستعيدوا وطنًا.”
كان الميدان يموج بالهتاف قبل أن تبدأ الخطبة، وكان الصمت العميق أثناءها أقوى من أى صوت. نظرتُ فى وجوه الناس فرأيت الإيمان والثبات. كانت الدموع تنساب على الوجوه فى صمت، وكنت أرى النساء فى الصفوف الأمامية يرفعن أعلام مصر كما لو أنهن يحملنها على أكتاف القلوب. ذلك اليوم لم يكن يومًا عاديًا، بل كان يومًا نطق فيه الميدان بلسان المنبر:
“انتصرنا… انتصرنا… انتصرنا.”
خرج الشعب بالملايين من كل محافظات مصر، من الإسكندرية إلى أسوان، من القاهرة إلى دمياط وسوهاج والمنصورة، بدون دعوة من حزب أو تحريض من إعلام، بل بدافع داخلى يرفض الذل ويطلب الخلاص. شباب، شيوخ، نساء، أقباط، مسلمين، موظفين، فلاحين، عمال… كلهم حملوا علم مصر وحده، لا أعلام الجماعات.
وفى مشهد وطنى متكامل، تعاونت مؤسسات الدولة كافة فى تأمين الشعب، وحماية المتظاهرين، والحفاظ على سلمية الثورة. وكانت الشرطة المصرية حاضرة بمسؤوليتها، تؤدى واجبها المهنى فى حفظ الأمن دون صدام، فى تجلٍّ لروح الانضباط الوطنى والانحياز للشعب والدولة، لا لفصيل أو توجه. أدركت الشرطة أن اللحظة لحظة إنقاذ وطن لا مواجهة أبنائه، فكانت العين الساهرة على سلمية الحشود، وحارسًا أمينًا على أمن الدولة وحقوق الشعب.
وفى مقدمة الصفوف الوطنية، وقف الجيش المصرى كعادته حاميًا لإرادة الأمة. رجال القوات المسلحة قدّموا ملحمة وطنية نادرة، إذ وقفوا حراسًا للإرادة الشعبية، لا طرفًا فى الخصومة. وكان على رأسهم قائد وطنى شجاع هو الفريق أول عبد الفتاح السيسي، الذى ظل طيلة الأيام السابقة يسعى للحوار، ويُقدّم المبادرات، ويؤكد حرص القوات المسلحة على تجنيب البلاد أى صدام أو انقسام. لم يتعجل فى الحسم، بل حاول إثناء الرئيس المعزول عن الانحياز لجماعته، وناشده أن يكون رئيسًا لكل المصريين. وحين استنفدت كل محاولات الحل، أعلن فى 3 يوليو خارطة الطريق التى حافظت على الدولة، ولبّت إرادة الشعب، وكانت نقطة انطلاق نحو تصحيح المسار واستعادة الوطن.
ولم يكن الجيش وحده فى المشهد، بل وقف إلى جانبه رموز الوطن جميعًا: الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وقداسة البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية، وممثلون عن الأحزاب والقوى الوطنية. كان المشهد لوحة وحدة تاريخية جمعت أبناء الوطن من كل الاتجاهات، تحت راية مصر، ليعلنوا أن الوطن فوق الجميع، وأن الدولة لا تبنى إلا بالتكاتف لا بالتفرقة.
كما أن ثورة 30 يونيو لم تكن عملًا لفئة أو طيف واحد، بل شاركت فيها كل القوى الوطنية والشبابية، وكل فئات الشعب من مختلف المشارب والانتماءات. كانت ثورة جامعة، توحّدت فيها الإرادة على إنقاذ الدولة واستعادة روحها. من شباب “تمرد” إلى القوى السياسية، من العلماء إلى العمال، من الأزهر إلى الكنيسة، من المرأة فى الشارع إلى الرجل فى الحقل، من المثقف إلى الطالب، اجتمع الجميع على كلمة واحدة: “كفى عبثًا… نريد وطنًا يعيش فينا كما نعيش فيه.”
فى المقابل، تعاملت الجماعة مع الثورة باعتبارها “انقلابًا”، ورفضت كل مبادرات الحل، وانقلبت على الشعب، وأرادت حرق الوطن، فتحالفت مع العنف، واستقوت بالخارج، وخسرت الداخل.
واليوم، حين ننظر إلى ما آلت إليه بعض الدول التى لم تنجُ من مخطط الفوضى، نُدرك أن 30 يونيو كانت طوق النجاة، وأن الدولة المصرية وُلدت من جديد، وأن هذا الشعب إذا ثار، لا يُهزم، وإذا قرر، لا يُخدع.
وأما أنا، فشاهد على تلك الأيام، وخطيب منبرها، قلت كلمتي، وسأظل أقولها:
إن مصر ستبقى، ما بقى شعبها وجيشها وأزهرها وكنيستها ومنابرها التى لا تنكسر.